لم أكن في يوم من الأيام مع أو ضد أحد – فمصطلح المعية والضدية البحتة لم تدخل في نطاق قاموسي الفكري أبداً – ولا أبالغ إن قلت: أن قناعاتي الفكرية خلاصة قراءات مفتوحة، وعلاقات منفتحة على الجميع.. وهي قناعات شكلت رؤية مستقلة تعزز إيماني المطلق بمفهوم "النسبية الاجتهادية" التي لا مجال معها للاعتقاد بأن شخص بعينه أو جماعة معينة تمتلك "الحقيقة المطلقة" فالحق المطلق هو الخالق سبحانه وحده، وهي خصوصية لم يشاركه فيها أحد من خلقه، بما فيهم الأنبياء الكرام عليهم أفضل السلام – أليست هذه فحوى قوله تعالى: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي، إنما إلهكم إله واحد".. وفي ذلك تفريق بين الوحي الإلهي والاجتهاد، أليست هذه إحدى معجزات الرسالة المحمدية على صاحبها أزكى الصلاة والتسليم، وهي رسالة استوعبها صحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، فعبروا عنها على لسان "الحباب بن المنذر" في "غزوة بدر" عندما اعترض على وضع جيش المسلمين بعيداً عن الماء، فرأى أن الاختيار الاستراتيجي يقتضي السيطرة على مصادر المياه، لحرمان "قريش" من الشرب. لتضطر للانسحاب أو تهلك عطشاً – لكنه قبل الإفصاح عن رؤيته الاستراتيجية تلك.. سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالاً يستحق أن يأخذ به كل من ينتمي إلى هذه الأمة.. إذ قال: "أهو منزل أنزلك الله إياه، أم هي الحرب والمكيدة".. إنه سؤال للتمييز بين طرفي المعادلة الإيمانية.. للتفريق بين أمر إلهي لا نقاش فيه، وبين اجتهاد قابل للتشاور والشورى، التي أسس عليها رسول الإسلام "صلعم" علاقته بصحابته الكرام، الذين استوعبوا حقيقة "أن الحكم إلا لله" ومرجعية هذه الحاكمية المطلقة "القرآن الكريم" يستندو إليه في عصر تدوين الحديث النبوي الشريف، ك"معيارية للثقة" بصحة الأحاديث النبوية بوظيفتها العقائدية، لشرح الآيات وتفسير ما تضمنته من عبادات، وتفسير المعاني القرآنية الموجزة وتقديم الأمثلة الحية لتقريب فكرة أو عرض صورة بلاغية تجسد ما في النص من دلالات معجزة، فإذا شك أئمة تدوين الحديث في الرواية، أو تعارض منطوق الحديث المروي عن رسول الله "ص" مع نص قرآني – دخل هذا التعارض في حكم التضعيف للحديث – إلى حد الطعن بصحته أو الإشارة إلى تضعيفه. ورغم ذلك فقد دخلت الأمة في تجاذبات، ظلت معها الاجتهادات "حلبة للصراعات الدموية"، بين فرق يزكي كل منها مشروعه، وينتصر كل فريق لاجتهاده – لتصبح تهمة التخوين والتحريض، مادة إعلامية استئصالية، لا يمكن إلاَّ أن تثير المخاوف من المصير المظلم الذي يتربص بالجميع، إذا امتلكت هذه القوى المتطرفة بعقلياتها الشمولية مصادر القوة، أو تمكنت من الاستحواذ على السلطة واستحضار تجربتنا مع الأخوة في "اللقاء المشترك" ومقارنة مخزون الذاكرة لماضي أطراف المعارضة بخطابها السياسي الذي لم يتخلص من موروثه التقليدي ولم تصقله التجربة الديمقراطية، يعزز قناعاتنا بأنها مازالت أسيرة ثقافة "الإرهاب الفكري والجسدي الموروث" وأن مجرد وصفها بالمعارضة مسألة فيها نظر، فالمعارضة تعني تقديم البديل الأمثل والنموذج الأفضل، وما لم تحقق هذا الشرط فإن الواجب الديني والوطني يحتم رفض بدائلها التدميرية.. ليصبح موالاة السلطة خياراً لا بد منه لإسقاط مشروعية معارضة ليست جديرة بتمثيل الشرعية الجماهيرية.. ومن حقنا أن نخضع طرفي «السلطة المعارضة» لهذه المفاضلة العقلانية وبتجرد موضوعي يراعي المصلحة العليا للوطن.. ولو بالحد الأدنى في غياب البدائل الممكنة.. إذ: 1- لا يمكن أن نحتكم إلا لوسطية عقائدية، فالتعصب الديني والسياسي الأعمى يفقد البصيرة، ويطوع العقائد لأيديولوجيات ضيقة لا علاقة لها بسماحة الاعتقاد، فأدلجة الفكر تؤدي إلى قولبة التفكير، وخلق حالة من الجمود المنافي لطبيعة التجديد، وبالتالي إلى استحالة التغيير.. فالتغيير يتطلب تنوعاً يثري الواقع، والعقليات الشمولية عقليات تقليدية تظل تجتر ثقافة نمطية مفرطة، لا يمكن أن تبدع لأنها لا تؤمن بمشروعية الفطرة الإنسانية التعددية، وغير قادرة على الاعتراف بوجود الآخر، والآخر بالنسبة للأخوة في "اللقاء المشترك" هو "المؤتمر الشعبي العام" على المدى القريب، فهو الخضم المشترك لمعارضة مؤقتة – بتأثير إغراءات التطلع للسلطة – دون أن يسأل فرقاء التحالف المعارض: وماذا بعد؟ - ولو أنصفوا لأدركوا الحقائق التالية:- أ- إن الحزب الحاكم الذي يحرضون عليه هم جزء منه، فهو لا يستثني أحد عن المشاركة في الحياة السياسية والأنشطة الاجتماعية العامة إن لم تكن الامتيازات التي تحظى بها كوادر المعارضة بحكم الضغط والمساومات قد أدت إلى تهميش الكادر المؤتمري.. خاصة أولئك الذين لم يدخلوا في مزادات مراكز القوى – وهذا لا يعني القبول بسلوك كهذا- بقدر ما يعني: أن المعارضة تغذي النزعات الشللية بدلاً من أن تضغط باتجاه الاحتكام للمعايير "القانونية والوظيفية" وتأكيد الشرعية الدستورية. ب- إن الهامش الديمقراطي الذي لم يعجب الإخوة في "اللقاء المشترك" يظل قابلاً للتطوير، وبالقدر الذي صدق فيه المعارضة مع التجربة الديمقراطية، فتتلقفها كحق مشروع، يستحق التنمية السلوكية أو التوعية الجماهيرية، والمنافسة البرامجية، لا مجرد الاستثمار الحزبي بدوافعه الشللية الضيقة، وافتقار أقطاب المعارضة لهذه المصداقية لا يدع مجالاً للشك بأن هذا الهامش يتعرض اليوم لمخاضات عسيرة – سواء حكمت المعارضة أم لم تحكم – فهي إن حكمت – لا قدر الله – ستدخل اليمن في صراعات دموية لها أول وليس لها آخر.. أولها التصفيات المذهبية والسلالية والمناطقية والشللية والثارات الحزبية المتبادلة اللامتناهية لأنه لا يمكن حسم الصراع لصالح فريق بعينه - وهي إن حكمت – فمن هذه الأطراف المتنافرة سيقبل الاحتكام للآخر؟!. وهاهي الأيديولوجية التي سنحتكم إليها أو المذهب الديني الذي سيفرض خياراته على ما سواه، وأي نمط سلطوي تسلطي سيطالعنا به الأخوة في "اللقاء المشترك" أهو "حكومة طالبانية" أم "ملكية دستورية" أو "إمامية أثناعشرية" – أم سيتقاسمون الغنيمة على غرار "النموذج العراقي" المرتقب، إلى حصص "مناطقية وشللية" ومناطق نفوذ "اشتراكية" "علمانية" "سنية" "شيعية" "قومية" الخ وكلها بوادر لهذا التصعيد الذي لا يمكن أن يتحرك من فراغ. ونحن هنا لا نتحامل على أحد ونعود للتذكير بإيماننا بموالاة مفتوحة، تدور في فلك الوطن دون مزايدة، وتنتصر لمكتسباته ولو على حساب المكاسب الشخصية الضيقة، وتؤمن أن المواطنة الحقة والوطنية الصادقة ترجمة أخلاقية لتضحيات سلوكية، قد يدفع صاحبها حياته ثمناً لمواقفه – وليس أمامه إلا أن يجبن فيسكت، أو أن يقف حيث يمليه عليه واجبه.. وما دامت الانتخابات الرئاسية هي "حديث الساعة" فإنها تحتم المفاضلة العقلانية بين "نظام حاكم لنا عليه ألف مأخذ ومأخذ"، ومعارضة شكلية بائسة تهدد بهدم ماهو موجود لتوريط الوطن في نفق مسدود. 2- إن من الإنصاف أن فرق بين مشروعية "الاجتهادات المفتوحة" لمعارضة سلمية – يظل اتفاقنا واختلافنا معها نسبيا – وبين حق أي من أطراف المعارضة في أن تتطلع لامتلاك مشروعية جماهيرية تؤهلها للوصول إلى السلطة بتبعاتها المحلية والخارجية – فانتصار كل فريق لأيديولوجيته شيء بينما فرضها على الآخرين شيء آخر، فالتعددية طبيعية بشرية فطرية، يمثلها التشريع الإسلامي بكامل توصياتها.. فلم يكره أحداً على اعتناقه، ولم ينكر على أتباعه الأخذ بأسباب الحياة ومتعها المشروعة، كما لم ينكر على البعض ميلهم إلى التقشف وخشونة العيش، ومثلما حبب "التنوع للعبادة دون تواكل" فقد حث على "طلب الرزق وطلب العلم" واعتبرهما عبادة، إلا أن هذه الخصوصيات المشروعة في سياقها الاجتماعي تنتفي صلاحية أي منها كمشروع لنظام حكم فئوي، يوحي لمن يستحوذ على السلطة بأن من حقه فرض خياراته على الآخرين والوصاية على الدنيا والدين، فالحاكمية لا بد أن تستوعب الجميع فمثلاً: أ- قد تتطرف هذه الأحزاب ليعتقد كل منها أن "بطاقة الانتماء إليه" بمثابة "صكوك غفران" لنسمع هذا الخطاب السياسي الذي يزكي كل طرف فيه نفسه، ولنشاهد "جمعيات خيرية" توزع الصدقات على حاملي بطاقة الحزب الذي يشرف عليها، أو أن تروج لهذا المذهب أو ذاك، لكنها بذلك تنفي جدارتها لإدارة دولة، لنظام عادل، يحرص على المساواة بين الجميع وعدم فرض خياراته، على خصوصيات الآخرين. ب- قد يفضي التبادل السلمي للسلطة إلى القبول "بحزب علماني" شأن "الحزب الاشتراكي" الذي حكم فرنسا دون الاصطدام بخصوصياتها المسيحية وبنيتها الاقتصادية الرأسمالية، وهي مواصفات لا ترتقي إليها "التجارب التقليدية" – على الأقل حتى الآن- . ج – لا بد أن يفرق الأخوة في "التنظيم الوحدوي الناصري" بين الشخصية الكاريزمية لعبد الناصر، كزعيم عربي تاريخي، صار في ذمة الله، وجزء من تراث أمة، لا يجوز لأحد احتكاره، وبين مشروع سياسي غير قابل للتكرار، لارتباطه بشخصية صاحبة، وبزمن غير الزمان، ف"لكل زمان دولة ورجال" ولكل دوره وخصوصياته وظروفه الزمانية والمكانية، التي تثري العبقرية وتنمي الإرادة، فأين هم من مواقفه الوحدوية. د- ما دمنا قد تطرقنا إلى المذهبية، فينبغي التفريق بين مذهبية سنية تنتصر لسنته عليه السلام، دون إغلاق باب الاجتهاد "تشيع لتجسيد مشروعية حب الرسول الأعظم" وآله الكرام، على أساس قرابة القدوة الحسنة لا لعصبية "السلالة العنصرية"، وبين الشواهد السنية الشيعية السائدة التي شوهت العقيدة، وألقت بظلالها القاتم على سماحة هذا الدين، وأمدت خصومه بمادة خصبة للإساءة إليه، وما لم تتجاوز هذه الجماعات مأزق "التناحر والتنافر" فإن وصمة "الإرهاب والتطرف والأصولية الاستئصالية" ستبقى لصيقة بهذه الأمة، فالعبرة بالسلوك لا بالأفكار المجردة والقيم المثالية، أو التنظيرات الشعاراتية، ولعلنا بهذه المقارنة التقريبية قد شخصنا أزمنة المعارضة الشعاراتية بحيثياتها التي تكرر المأزق التاريخي لهذه الأمة، ولا فرق بين تجارب الأمس واليوم سوى "الأقنعة التجميلية" لعقليات شمولية تقليدية، تعيش خارج العصر وان تشدقت بالانتماء إليه، وما لم تتغير قبل أن تتصدى لمسؤولية التغيير فإن لسان حالنا سيظل يردد: "ليس بالإمكان أفضل مما كان".. ولأن إشكالية العلاقة بين عمومية المعتقد وخصوصية الاجتهاد قد أفرزت هذه التناقضات العميقة الجذور، بتداعياته التي أبرزت صعوبة توازن الخطاب السياسي، إفراطاً أو تفريطاً.. وما يفترضه هذا الخطاب من غذبة سلوكية، فلنا وقفة وربما وقفات تالية، سنسلط الضوء حول هذا الموضوع في سياق قراءات تحليلية مكثفة لا تقتصر على نص مشروع "اللقاء المشترك" في حد ذاته، بل تحاول تشخيص العقلية التي أنتجته، فالقراءة الناقدة تتعدى الفعل ورد الفعل لتدرس واقعاً سياسياً يدير صراعاً بحجم الوطن، ويؤثر سلباً أو إيجاباً على حاضر شعب ومستقبل أجيال،إنها أزمة مزمنة مالم ندرك أنه «مثلما تكونوا يولى عليكم» فستظل الأزمة قائمة ومتفاقمة، إذ «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». * استاذ علم النفس الاجتماعي