الديمقراطية كما نعرفها جميعاًتعني «حكم الشعب نفسه بنفسه» وهذا التعريف الاصطلاحي لا يختلف عليه اثنان - منذ نشأته الاولى في احضان (الحضارة اليونانية) وحتى الآن، والى ما شاء الله - ومع ذلك فقد تنازع المنظرون السياسيون الجوانب التطبيقية لكيفية نقل هذا المنظور الفلسفي إلى آلية عمل سياسي، أو برامج حياتية حية.. أي كيف يمكن ان يحكم الشعب نفسه بنفسه، فممارسة مجتمع بكاملة ادارة شؤونه مسألة غير ممكنة اطلاقاً.. وهذا الخلاف ما زال قائماً لاسباب ذاتية وموضوعية.. فاخضاع الأنظمة الحاكمة هذا المصطلح - او غيره - للنظرة الخاصة بكل منها الغى امكانية التوافق على الكيفية الجامعة - المحددة.. للنظام الديمقراطي.. فكل يدعي وعن قناعة انه النموذج الامثل للعدل والحرية والمساواة والمعبر الأوحد عن ارادة شعبه - وفي ذلك اختزال للحقيقة.. فقد نرى حاكماً فرداً لكنه اقرب الى الناس ومصالحهم من حكومة جماعية قمعية.. فالمملكة المتحدة (بريطانيا) تعد من افضل شواهد ديمقراطية السلطة، من (جمهورية موسوليني - أو هتلر) وبعض الانظمة التقليدية المحافظة اتصفت بالاستقرار والتنمية كشروط انسانية ملحة عجزت عنها الكثير من الانظمة التقدمية - الحزبية وحتى التعددية - احياناً - ربما لأن بعض التجارب الحزبية - استندت الى أيديولوجيات فئوية (طبقية) عنصرية، سلالية، مذهبية، قومية، مستمدة من «ثقافة شوفونية: عصبية، منغلقة) تحركها عقليات شمولية - اصولية استئصالية - تدفع أصحابها الى الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة وما عداها باطل محض.. وان الحزب او الجماعة ممثلة وحيدة للاوطان، والوصية الشرعية على الاديان.. وبهذه العقلية يصبح هؤلاء ملكيون اكثر من الملك.. مهما كانت سلطتهم جماعية، ومهما اضفت على نفسها من الاوصاف الشعاراتية والبهارج الشكلية.. فاحلال الجماعات المتطرفة محل الفردية المتسلطة ليست اكثر من مضاعفة لدكتاتورية السلطة.. يكرر مقولة «الدكتاتورية الطبقية، او الاحتكار الفئوي للسلطة».. والتجارب السياسية التي اخذت بهذا الخيار او ذاك اثبتت فشلاً ذريعاً.. فالديمقراطية ليست مجرد قميص فضفاض ترتديه الانظمة الشمولية، مهما زايدت بتلبس مسوح الاديان او تغزلت بحب الاوطان - فما لم يلتزم الجميع - في الحكومات وقوى المعارضة.. بالخضوع لارادة الشعوب - والتسليم بخيارات الجماهير - شاءت أم أبت - اعجبتها هذه الخيارات ام لا؟ فإن الصراع على السلطة يصبح هو الغالب.. متحدياً بذلك ابسط القيم الديمقراطية.. وضد مصالح الشعوب.. ومتوالية المشهد السائد في المنطقة تؤكد: ان الديمقراطيات تحولت الى مسرحية سياسية عبثية.. وان قوى المعارضة دخلت حلبات المغامرات التي تصب في خانة مشاريع مشبوهة - سواء ادركت ذلك ام لا.. الامر الذي يقتضي نشوء قوى ضغط وطنية.. تنزع عنها مشروعية المساومات الابتزازية تتذرع ب(تمثيل الرأي الآخر) او ان من حقها (رفض احتكار الحكومات للسلطة) واقامة انظمة ديمقراطية.. وهي (كلمة حق أريد بها باطل) اذ: 1- اجمعت قوى المعارضة العراقية على ازاحة النظام الحاكم.. وهو نظام حزبي وليس فردي.. ووعدت تلك القوى باقامة نظام ديمقراطي تعددي وارد U.S.A.. وازيح صدام حسين من السلطة.. ويحاكم اليوم بتهم (المقابر الجماعية).. وصفق البعض.. وصمت آخرون، واذهلت الصدمة الكثيرين بانتظار البدائل التي بشر بها المتأمركون.. فاذا بها كابوسية.. فالابادة الجماعية صارت مشهداً يومياً.. وتكاد نهاية (صدام حسين) ان تجعله أسطورة.. ف«من يعرف يزيد يترحم على معاوية». 2- شكلت المعارضة اللبنانية موقفاً مشابهاً - تبنى تغيير السلطة الموالية لسوريا.. وصورت العلاقة اللبنانية- السورية بالاستعمار، واحتفت بالقرارات الدولية التحررية.. لتكشف تواطؤاً رهيباً، لقوى لا تتحرج عن الاعلان صراحة: ان لبنان ليست مهددة من اسرائيل وانما من سوريا - والقبول بقوات دولية لحماية «حدود الكيان الصهيوني الغاصب من المقاومة الاسلامية» بل وسعت الى استصدار قرار أممي لاستحضار قوة دولية لضرب المقاومة. 3- يعيد المشهد نفسه في (السودان) وتقديم معلومات كاذبة لتدمير المنشآت الوطنية.. ومنها (ضرب مصنع الادوية بناءً على تقارير ملفقة بأنه مصنع كيماويات) وليستمر التصعيد والتحريض، والذي يهدد اليوم بوضع (دارفور) تحت الوصاية الدولية.. تلبية لمخطط خارجي لا تخفى مصادره واهدافه. 4- قد لا يكون من باب المصادفات ان (ملامح التصفية ضد ايران، سوريا) تقف خلفها أيادٍ داخلية.. وبلاغات مشاريع اسلحة دمار شامل - والامر لا يتوقف بحدود هذه البؤر المتفجرة.. فالمؤامرات تتهدد الجميع، وتحريك الاقليات (القبطية المصرية) والمذهبية لبقية الاقطار العربية، والكردية في تركيا.. ليست الا أدوات للضغط على الحكومات الواقعة في النطاق الجغرافي لمشروع (الشرق الاوسط الجديد - او الكبير) للقضاء على بوادر الرفض او التمرد.. فليس امامها الا الاستسلام والقضاء على (ثقافة المقاومة) ومحاصرتها، ما لم ستواجه بإثارة صراعات محلية.. كمدخل لتدويل الصراعات. وهذه الصورة الضبابية - القاتمة - تدين هذه القوى التي تتخذ من معارضة الحكومات مبرراً للتغيير الديمقراطي.. ليظل هذا التبرير مثيراً للتساؤل المريب - فإن لم تكن هذه القوى عميلة.. فهي اذاً غير قادرة على استيعاب دورها الوطني الذي يحتكم لمشيئة الشعوب لا التحكم بها - وفي الحالتين فالشبهة لصيقة بسلوكيات معارضة كهذه.. ليصبح الانحياز ل«صدام حسين» العماد لحود - عمر البشير - بشار الاسد - حسن نصر الله - أحمدي نجاد.. الخ» ضرورة وطنية ودينية حتمية.. فهل التجربة اليمنية تختلف عن هذا المشهد الاقليمي العام؟ سؤال نطرحه لاستخلاص الفروق الموضوعية - النسبية - لهذه التجرية.. والتي لا تخلو من شوائب.. نتطلع ان يتخلص منها النظام التعددي في بلادنا - باعتباره العلامة الاكثر اشراقاً وتميزاً في المنطقة.. خاصة وقد اقرت - السلطة والمعارضة - ان (الاحتكام لصناديق الاقتراع) صار خياراً لا رجعة عنه - او المساومة فيه او عليه - فما هي ضرورات ترشيد هذه التجربة.. لتقديم الأنموذج القادر على التطور والتجدد - عن طريق النقد الذاتي لجوانب القصور - وصولاً الى تكامل الادوار الديمقراطية.. للانتقال بالمعارضة من صيغتها التقليدية.. كمعارضة مطلقة.. تتماهى لديها الاختلافات المنهجية مع الحزب الحاكم الى التناقض مع الثوابت لمجرد ان السلطة تمثلها.. ولعل اهم الملاحظات التي يجب التركيز عليها - هي: 1- التوافق على خصوصيات الاجماع الوطني - فقد برهنت المحطات الانتخابية المتتالية ان المزاج الشعبي يستجيب للصوت الذي لا يثير الشبهات أو ينتقص القواسم المشتركة.. فقد نتفق مع من يشير الى السلبيات التي رافقت التجربة الديمقراطية، أو بعض الهنات التي اعاقت بناء دولة المؤسسات المدنية .. وكذا السلوكيات المناطقية المضادة للقيم الوحدوية. أو الاختلالات الادارية التي تتجاوز (المعايير الوظيفية) أو حتى استغلال البعض للوظيفة العامة.. وغيرها من التراكمات التي اضرت بمسيرة التنمية الشاملة.. لكن لا يوجد يمني شريف - مهما كان وعيه السياسي أو مستواه العلمي - سواء اتفق او اختلف مع السلطة.. ليتخذ موقفاً مضاداً للمنجز الوحدوي، الديمقراطي، الجمهوري، او ينكر المنجزات التنموية، ويتنكر للجهود الاعجازية للقيادة السياسية.. ف(ما لا يدرك كله لا يترك جله).. ولبلورة هذا التوافق لابد من اقرار (ميثاق شرف وطني) واعتبار الخروج عليه (خيانة وطنية).. فالفارق شاسع بين (من ينتقص المنجز الوحدوي لان بعض الاشخاص تضرروا) وبين (من يشدد على دراسة الحالات المتضررة بموضوعية) كما لا يجوز التعاطف مع «البؤر التخريبية» او (الترويج للشبهات المسيئة للوحدة» وما في حكمها - ف(الثورة - الوحدة) لا تخص حزباً بعينه بل شعباً بأسره - وبالمثل فإن من يغذي ظواهر (اختطاف السياح) او (بوادر الارهاب وزعزعة الأمن) فإنه شريك في الجريمة.. ومحارب للاستقرار المعيشي وتنمية موارده الاقتصادية.. الخ. 2- ضرورة تفعيل (قانون لجنة الاحزاب) فالديمقراطية لا تقتصر على المشاركة في الانتخابات العامة.. انها قيمة سلوكية - تحترم وتشجع البوادر الايجابية مهما اختفلت مع اصحابها - وتشجع العناصر الوطنية الناجحة وان لم تصب نجاحاتها في رصيدها - وتلتزم بالمعايير القانونية والاخلاقية سواء أكانت لها أم عليها - وتمارس الانتخابات التبادل السلمي للسلطة بمختلف هياكلها الحزبية - وداخل كل حزب على حدة - قبل ان تطلبها من غيرها.. وقبل هذا وبعده: ان نرى في هذه الاحزاب ما يطمئن الى أنها تجاوزت (ثقافة الاستئصال للآخر).. واهم مؤشرات هذا التحول (النقد الذاتي لا تزكية الذات) (الانفتاح والشفافية في العلاقة الاجتماعية) فالجماعة التي تعتقد انها بديلة للمجتمع يستحيل ان نثق بجدارتها لادارة مؤسسة عامة، ناهيكم عن ادارة دولة. 3- تجسيد التقاليد التعددية.. فما لم تتمايز المناهج الأيديولوجية.. ان كانت لهذه الاحزاب قناعة - راسخة بامتلاك مشاريع تغيير وطني - خاص لكل فصيل سياسي - فالأجدى بها الانسحاب من الساحة السياسية - فما هي الفروق في التنوع (الاشتراكي، القومي، الاسلامي.. الخ) وتصور كل منها لمشروع ادارة الدولة - وكيف يمكن المفاضلة الاجتماعية بين فرقاء هذا التعدد - والذي يقف اليوم مذهولاً لنتائج الانتخابات المحلية وليس الرئاسية فقط - ولم يدر ان تقلص شعبية القوى التقليدية - بدلاً من توقعاته بارتفاع نسبتها - جاء حصيلة (هذه الخلطة العجيبة الغريبة عديمة اللون والطعم والرائحة) باستثناء الروائح التحريضية الكريهة واثارة العصبيات المنتنة، وافتقاد المصداقية بالشطحات السوداوية المنفردة، والمزايدات الدعائية الملفقة.. الغارقة في متاهات المكايدات النزقة - التي لا علاقة لها بالتقاليد البرامجية التنافسية - التي تشخص الواقع وتطرح الرؤى الموضوعية لاثراء التجربة التعددية - بعرض المنظور الخاص بكل من اطياف التنوع السياسي لآفاق المسيرة الوطنية المستقبلية.. بحيث يجد الناخب بدائل متعددة للمفاضلة المفتوحة لاختيار المشروع الانتخابي الاجدر بالثقة.. ولتتوزع الخارطة السياسية على الاحزاب المختلفة وفقاً للثقل الجماهيري لكل منها - كمصدر لقراءة وتحليل البيانات الاحصائية، لمراجعة الاداء الحزبي، ومقارنة النتائج، واعادة النظر بالعلاقة الجماهيرية، وبادارة اللعبة السياسية - استعداداً لجولات متتالية - وهذا ما لم تفرزه الانتخابات اليمنية الاخيرة - لغياب الخصوصيات البرامجية، وانعدام المصداقية.. لهذا افتقدت المعارضة توازنها.. بدخولها المعترك دون هوية ذاتية، وادارة معركة لتحدي احكام التقاليد التنافسية.. لتخرج بضربة قاضية.. يستحيل الرصد الدقيق للثغرات التي أدت اليها.. لان ثغراتها ذاتية وموضوعية متداخلة. أخيراً.. لا بد من التشديد على اهمية ترجمة الحرص على ترشيد المسار السياسي التعددي.. وعلى من يتحدث عن التبادل السلمي للسلطة: اثبات مصداقية التعامل مع هذا الخيار.. فالانتقائية بقبول الجزئيات التي تشرع حق المعارضة دون أحترام اخلاقيات الاختلاف وآداب الخلاف او حين يوظف هذا الحق التعددي للاساءة للوطن وتشويه صورته خارجياً، ونشر الاشاعات المضللة لافساد علاقاته بمحيطه الاقليمي والدولي أو تنفير الرساميل الوافدة للاستثمار فيه.. وتقديم معلومات وبيانات مفبركة لقطع المعونات أو ايقاف الدعم لمشاريعه الانمائية.. والتشكيك بمصداقية سياساته.. انما يبرهن على عدوانية تدميرية تتعارض مع مشروعية المعارضة الوطنية.. وتنقل اصحاب هذه الاصوات النشاز الى (خانة التآمر) ويضعها في مصاف العمالة التاريخية.. ل(طابور خامس) اكثر انزلاقاً في متاهات التبعية.. مقارنة بنظائرها التقليدية.. فتلك لم تجاهر علناً بعلاقاتها الاستخباراتية المعادية.. كما لم تتشدد بالانقاذ للاوضاع وحماية الاوطان من الضياع.. بقدر ما لعبت ادواراً خيانية بدافع اغراءات مادية بحتة، او بالوقوع تحت تأثير (غسيل الدماغ) بما فيه من ملابسات يستحيل تمثلها في النماذج المعاصرة.. والتي تمعن الاساءة المتعددة لتكبيد الوطن اضراراً مقصودة.. والاّ لاستفادت من التجارب المنحرفة.. لهذا جاءت المؤشرات الانتخابية بمثابة محكات استفتاء عام.. فمن لا يجد ذاته فحتمية التغيير ستسحقه