لاشك ان الذين لا تعجبهم كتاباتي كثر -واعترف انني أحدهم- إلاّ أن قلمي هذا يعشق الخوض في غمار السياسة، ويزعم أنه يخاطب الغالبية المحايدة الباحثة عن الحقيقة، بعيداً عن المكايدات الحزبية.. فاذا سألته: الى أي خندق تنحاز؟ يبتسم في وجهي بسذاجة، ثم يهمس في أذني ببرود (الله) (الوطن) والغريب انه لا يفقه من مفردات السياسة إلاّ هاتين المفردتين، لكنه يراهن على أن الفارق بينه وبين الكثيرين هو «إن ايمانه بالله لا يقبل الوصاية من أحد، ولا يكفر أحداً» و«ان الانتماء الوطني لا يحتمل المزايدات ولا المساوات»، فاذا أقنعته بان هذه (ديمقراطية مثالية) لا تجلب لصاحبها إلاّ الخصومات والتصنيفات التي لا طائل لها.. أجاب بتحدٍ: إنها ليست مثالية مطلقة، إنها «مثالية واقعية» فأيهما أجدى: أن تنتصر للثوابت أم للحزبية المنغلقة والمصالح الضيقة»، ثم يضيف: «لا بأس أن ندفع الضريبة، ولابد أن ترافقني عبر مطبات بقية هذه المغامرة الخطرة»، فلا أملك إلاّ أن أذعن رغم علمي ان (العقليات الشمولية لا تؤمن بان الاتفاق والاختلاف مسألة نسبية)، لانها لا تفرق بين الثوابت والمتغيرات، ولا بمشروعية الرأي الآخر، فان حدث ذلك على مضض -كما هو الحال في (اللقاء المشترك) فان تحالفاً كهذا لا يمثل إلاّ واجهة لحشد أكبر قدر من خصوم السلطة- وكأن المعارضة ليست اكثر من خصومة، شد وجذب بهدف المساومة، وهي مساومات عبثية هشة، التقى فيها فرقاء التضاد والتنافر الى حد التناحر، على مائدة ملغومة، مستعدة لتفجير الاوضاع، ولا يهمها في الأمر سوى التصعيد للضغط، وتحين الفرص لخلط الاوراق، بحثاً عن غنيمة، من أي مصدر كان، وباي ثمن كان، وتحليل مواقف وعلاقات هذه الاطراف، ومؤشرات خطابها السياسي والاعلامي يؤكد هذه الهشاشة، وهي كذلك لان ليس لها (قضية برامجية لحراك سياسي مشروع) إذ: 1- أتحدى أن يكون (اللقاء المشترك) قد راعى الحد الادنى من (القواسم المشتركة) فالتنافر بين جزئياته الى حد التناقض والتضاد، يجعل المعارضة أقرب الى السلطة، بطبيعتها المرنة، وسياساتها المنفتحة، وبصيغة برنامج عملها السياسي (الميثاق الوطني) الذي تبلور عن حوار توافقي، ك(وثيقة اجماع وطني) أروع ما فيها أنها أسست لعلاقات تكاملية، فتحت الباب مشرعاً أمام الجميع، وبلورت سلوكاً ديمقراطياً، لنظام تعددي تعايشت في ظله كافة الوان الطيف السياسي -حتى قبل التجربة التعددية، التي عززت هذا الخيار، ليظل الجميع يحكم ويعارض- ولا فرق سواء (أن المعارضة -اليوم- داخلة في الربح، خارجة عن الخسارة) فهي تضغط لكسب المزيد من الامتيازات، على حساب الموارد العامة، والمعايير القانونية، وفي الوقت نفسه تنفض يدها عن المسؤولية، لتسلك سلوكاً (برجماتياً) عنوانه «إني بريء منكم، فلا تلوموني ولوموا انفسكم»، وهي حجة واهية، فالاصل في المعارضة الوطنية، تقديم نموذج حضاري، يعزز الايجابيات ويقاوم السلبيات، ويستخدم حقه الدستوري والقضائي في (الاحتساب الشرعي) و(التمثيل النيابي) ليصبح الدستور حكماً بين طرفي السلطة/ المعارضة، وشواهد الحال تدمغ استحضار هذه الحاكمية، إلاّ لتمرير مكاسب خاصة، أو توازنات حزبية.. كمعيار وحيد لهذا الائتلاف المعارض، المستعد للمساومة بكل شيء للحصول على أي شيء، واجهاض التجربة التعددية، وتشويه المسار الديمقراطي، ما لم يفصل على مقاسات ويخضع لارادات أقطابه.. وتلك هي (القضية المحورية لمشروع المعارضة). 2- ان المهاترات السائدة تبرهن على (غياب امتلاك هذا الائتلاف الهش لرؤية واضحة، تحدد موضوعية المشروع الوطني الذي أجمع عليه اللقاء المشترك)، وكأن ليس له قضية إلاّ (المعارضة لاجل المعارضة). ولنا أن نسأل الاخوة في المعارضة: هل لهم قضية غير هذه، وما هي المنطلقات الاستراتيجية لمشروعكم، هل انتم مع (الثورة والجمهورية) (الوحدة اليمنية) (الديمقراطية) (ترشيد الموارد في خدمة التنمية) (الاحتكام الى الدستور كوثيقة وطنية، ظلت مطلباً نضالياً منذ حركة 48 الدستورية.. أم ماذا؟؟). انها أسئلة أجزم بانها لا تدخل ضمن أولويات هذا التنافر المعارض، لان لكلٍ (اجندته الخاصة) التي فرضت على الجميع ترحيل هذه الثوابت، والتي بغيابها إفتقدت المعارضة استراتيجياتها، بالهروب الى تكتيكات دعائية عطلت فاعليتها.. ليظل الحزب الحاكم ملاذاً للاغلبية المتشبثة بخياراتها الوطنية في (العقيدة الوسطية ورفض -الافراط والتفريط- الذي تحتضنه المعارضة) (الثورة والجمهورية مقابل النكوص التاريخي الى زمن الإمامة البائدة، التي مازال الخطاب المذهبي في أوساط المعارضة يروج لها) (الوحدة اليمنية في مواجهة النزعات الانفاصلية المضادة) (الدعوة لتكريس القيم الديمقراطية) لاسقاط مراهنات العقليات الشمولية، التي تراهن على ديمقراطية شعاراتية مفرغة، لا ترقى الى مستوى الوعي الجماهيري بجدوى الممارسة التعددية، التي لا مجال فيها للوصايا على الدين واحتكار الوطنية، (محاربة العبث بالمال العام الذي أهدرته التكتلات الشللية، التي استغلت الهامش الديمقراطي لتكوين (دويلات داخل الدولة) وتلك اشكالية تغذيها اطراف في المعارضة لحماية استثماراتها بالتحالف مع اشخاص في السلطة تربطهم بها الحماية المتبادلة) ليصدق على عتاولة (المزاد السياسي) المثل الشعبي «رمتني بدائها وانسلت».. ليأت في البيان الأخير ترجمة صادقة لهذه المفارقات.. فالنظرة التحليلية المجردة الى الشروط التعجيزية التي يثيرها الأخوة في (اللقاء المشترك) تؤكد ذلك.. ومنها: أ) ان الصفحة الأولى -كاملة- في هذا البيان تشير الى ان (اللقاء المشترك) بذل كل جهده، لحصر مبدأ إحترام الدستور والقانون، بزاوية ضيقة لا تتجاوز «إجراء اصلاحات حقيقية في التشريعات الانتخابية» وكأن لا وظيفة للدستور والقانون إلاّ (التسابق على مقاعد مجلس النواب).. والسؤال هو: «ما جدوى العضوية النيابية للمعارضة -قل عددها أم كثر- إن كانت لا تناضل باستبسال إلاّ حينما يتعلق الأمر بالامتيازات والمزايا الخاصة بالاعضاء واحزابهم، وكأنهم ليسوا ممثلي الشعب، وإلا لاستبسلوا بتمثيلية كما ناضلوا باستبسال لتشريع حقهم في «الحصول على راتب وزير بكامل البدلات والامتيازات حتى بعد إفتقاد كل منهم لعضويته في المجلس». فالاخوة في المعارضة -إذاً- لم يحفظوا من (القيم الديمقراطية) إلاّ الجوانب الشكلية، الممثلة بالانتخابات النيابية، لتشكيل كتل ضاغطة بدوافع مصلحية وحزبية. ب) يشير البيان في نهاية الصفحة الاولى الى ان المقدمة الاساسية لاصلاح الادارة الانتخابية هي (إيجاد سجل مدني) و(الاتفاق على اللجان الانتخابية) فبالله عليكم كم سيحتاج من الوقت (توثيف السجل المدني لتعداد سكااني يضبط السن القانونية للناخبين على مستوي الجمهورية) و(كم من الاعتمادات المطلوبة لهذه العملية)؟ ثم أليس هذا المطلب تعجيزي لاستحالة تنفيذه خلال الفترة الوجيزة من الآن وحتى موعد الانتخابات، ثم ألا ينم مطلب كهذا عن نظرة متغتة تفترض التخوين للجهات الرسمية، والطعن بنتائج الانتخابات من الآن، واتهام الحزب الحاكم بانه (سيزور الانتخابات) وهيتهمة استباقية لتسويغ (ظاهرة التزوير) بسوابقها التي نعرف جميعاً من هو الحزب الاوفر حظاً، والاكثر مهارة فيها. أما مسألة تشكيل اللجان فانها تعيدنا الى نفس المربع، لتعزز قناعاتنا بان (اللقاء المشترك) يعتبر الانتخابات (موسم حصاد يحسب كل طرف فيه كم ستجني كوادره من الارباح المخصصة كمستحقات للجان).. واتحدى من يزعم: ان التقاسمالحزبي للجان شرط لنزاهة الانتخابات، لكنه منطق التقاسم الذي صار عرفاً تناضل المعارضة لتشريعه، بدلاً من البحث عن آليات موضوعية أسوة بالعالم من حولنا. ج) بالاطلاع على الصفحة الثانية من البيان نجدها تراوح في نفس الدائرة المغلقة، فلا تضيف لاعتراضاتها على اللجنة العليا للانتخابات سوى (حيادية مؤسسات الدولة) وهي اعتراضات توحي بان الاخوة في (اللقاء المشترك) يتعامل مع الرأي العام الذي يخاطبه، وكأنه قادم من (كوكب آخر) لا يدرك ان جميع احزاب السلطة/ المعارضة ممثلة في (اللجنة العليا للانتخابات) وموزعة توزيعاً نسبياً وفقاً لحجم التمثيل النيابي للجميع، ولا بديل لذلك إلاّ إقرار (لجنة محايدة) سندخل في جدل حول تشكيلها، ومدى حياديتها والتفتيش في أدمغتها ومع من تتعاطف، وهل ستصمد أمام ضغوط هذا الطرف او ذاك؟؟ انها حكاية (البيضة والدجاجة) ولو أنصف الجميع لاحسنوا الظن ب(مراكز الشرطة) (الدوائر القضائية) او غيرها من الآليات المعمول بها دولياً.. ولا بأس ان نجرب، ونطور التجربة، وان لا يدعي احد تزكية الذات، فكل معروف بسوابقه التي نتمنى تجاوزها، ان خلصت النوايا لتطوير التجربة. وتسري هذه الامنية على (حيادية المؤسسات العامة) فالواقع يشهد على ان الاخوة في المعارضة يمثلون العقبة الكأداء في طريق حياديتها، وبفروق نسبية.. فبعضهم مستعد أن يدير (حرب داحس والغبراء) حفاظاً على وضعه المتميز للاستقطاب الحزبي، والاستحواذ على النشاط السياسي الذي لا يستثني أيٍاً من هذه المؤسسات العامة.. وكم نتمنى صدور تشريعات قانونية بحياديتها الشاملة- ليس فقط أثناء الانتخابات. د) وبنفس منطق (التزكية للذات) يتحدث الاخوة في (اللقاء المشترك) عن «مسؤولية الحزب الحاكم والاخ رئيس الجمهورية عن رعاية التجربة الديمقراطية»، وهذا المنطق يذكرني بمقولة عقلانية تعني وبنضج وامانة حقيقة الدور الذي يفترض ان تضطلع به المعارضة لانضاج التجربة الديمقراطية، بتأكيد الاخ رئيس الجمهورية اكثر من مرة بأن «وجود معارضة قوية، وفاعلة، ضرورة حتمية لوجود سلطة قوية» فالمسؤولية -إذاً- مشتركة ان لم تكن للمعارضة الباع الاطول فيها.. فالحاكم بشر، والانتصار للذات طبيعة لا يحد منها إلا استشعار الحاكم بانه (تحت المجهر) لمعارضة وطنية، تتصيد زلاته في سياق التنافس الحزبي، بكل ما يتمخض عنه من ثقة جماهيرية، رصيدها الوحيد المصداقية السياسية، لا المساومات المصلحية. وللحديث بقية..