span style=\"font-size: medium;\"علينا أن نعترف أولاً، أنه لولا الربيع العربي لما قدّر لليمنية "توكل كرمان" أن تحصل على جائزة نوبل للسلام. فكرمان التي بدأت نشاطها الثوري والإنساني منذ وقتٍ مبكر، وترأست العديد من الجمعيات والمنظمات الخيرية والحقوقية، وشاركت بفعالية في كثير من القضايا السياسية والحقوقية، العامة منها والخاصة ، وقادت عشرات التظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات طيلة السنوات الماضية، وقامت بإخراج العديد من الأفلام الوثائقية حول انتهاكات حقوق الإنسان والحكم الرشيد وظاهرة الانتحار والمشاركة السياسية للمرأة اليمنية وظاهرة تهريب الأطفال في اليمن.. وغيرها الكثير. لكن، ومع أهمية كل تلك الأنشطة، فقد كانت بحاجة ماسة إلى عملٍ ملحمي يخرجها من الإطار المحلي، ليبلغ بها عن طريق تأثيراته وإدهاشه الإنسانية كلها، كي تستحق، في النهاية، التفاتة "نوبلية". ومن حسن حظها، أن ما سمّي بالربيع العربي قد أتى مبكراً بالنسبة لعمرها النضالي ومقارنة مع نضالات آخرين ممن حصلوا على الجائزة قبلها أو معها.. وقد وفر لها هذا الربيع البعد الملحمي بكافة تجلياته. على أن فوز كرمان لم يمثل عنصر المفاجئة الأكبر في الموضوع، بقدر ما مثلته هذه المرة المعايير التي اُتبعت لاختيار امرأة إسلامية "محجبة"، لم يظهر عليها قط أي أثرٍ لنزعات أو توجهات غربية، بل كانت، وإلى سنواتٍ قريبة جداً، ترتدي النقاب الإسلامي الكامل، وهي امرأة تنتمي إلى تيار محافظ (حزب التجمع اليمني للإصلاح)، وتشغل مركزاً قيادياً فيه، هذا التيار الذي غالباً ما يوصف بالمتشدد، وتم وضع بعض من رموزه على القائمة الدولية للإرهاب، وكثيراً ما اٌتهم بقتل وتصفية عدد كبير من رموز الحركة الليبرالية والتحررية في اليمن. فهل مثّل منح كرمان الجائزة هذه السنة عملاً ثورياً، و نقطة تحول كبيرة في صلب التقاليد "النوبلية" العتيدة التي درجت الأكاديمية على الالتزام بحذافيرها عند اختيار الفائزين؟.. هذه التقاليد التي لطالما لم تخل من الاتهامات بسبب انتصارها الأعمى للقيم والثقافة الغربية، خصوصاً الرأسمالية منها؛ إلى الدرجة التي وصفها جان بول سارتر بعد رفضه تسلمها بأنها «جائزة سياسية مثلها مثل جائزة لينين»!.. وإلا بماذا يفسر منح الجائزة لكاتبٍ مغمورٍ جداً اسمه "سولي برودوم"، بينما يتم، في نفس الوقت، تجاهل "تولستوي" العظيم؟!.. أو أن يتم منح جائزة نوبل في الفيزياء لفرانسيس فوكاياما!.. لا شك أن الربيع العربي، فيما يتعلق بفوز كرمان، قد فعل فعلته، وقد مثل، وإلى هذه اللحظة، مصدراً للإلهام والافتتان العالمي اللذين غيرا جملة من المفاهيم والمعتقدات الراسخة، ومهدا لتقبل فكرة أن تتحول امرأة مسلمة "محافظة" إلى رمز عالمي. كما أن الثورة بطبيعتها، تلك العاطفة الجامحة، واليوتوبيا المنقذة والغامضة، التي تستلهم طفور الأخوة البشرية في وحدة واحدة، وتعترف بكل آخر مندمج مع الجميع، ما زالت قادرة على أن تكون مصدراً للإعجاب والافتتان الكوني الذي لا ينقطع، ولشحن المخيال الجمعي بالانفعالات الآسرة بحسب الفرنسية جاكلين بارو ميشيل. ولهذا تحديداً، ما زال المشهد الأسطوري لزحف الجماهير الفرنسية نحو الباستيل، ثم إطاحتهم بالملك لويس السادس عشر، يغوينا، ويؤجج وعينا وعواطفنا بطرقٍ شتى، ويولد لدينا، وإلى يومنا هذا، نوعاً غامضاً من التعاطف، وحتى الافتتان برموزها التاريخيين، على الرغم من الفارق الزمني الشاسع، وعلى الرغم أيضاً من المجازر الكارثية التي خلفتها هذه الثورة (هذا الشعور الذي يصفه الفيلسوف الألماني "كانت" بأنه «نزعة أخلاقية لدى الجنس البشري» تبرر الأمل في تطوره مستقبلاً!). وهو نفس الانجذاب أيضاً الذي تحدث عنه "بهمان نيرومند" الذي ساد في الغرب مع تصاعد الحركات التحررية في العالم الثالث، واجتياح مدن أوروبا وأمريكا موجة الحركات الطلابية في نهاية سبعينيات القرن المنصرم. فكان يُنظر كما يقول نيرومند" إلى أي شخص قادم من بلد آسيوي أو أفريقي أو من أمريكا اللاتينية كعنصر فاعل يمكن أن تُعلق عليه الآمال، ويا حبذا لو كان هذا الشخص ينتمي فعلياً لإحدى حركات التحرر.. ونيرومند نفسه، معارض إيراني، كان شاباً عندما ذهب إلى ألمانيا بعد استيلاء الشاة على الحكم في إيران، وأصبح بين ليلةٍ وضحاها، واحداً من أبرز رموز حركة 68 في ألمانيا. واليوم، وتحت تأثير المشاهد والصور الملحمية الساحرة التي ولدها "الربيع العربي"، خرج الشباب الإسرائيلي للساحات، ونصبوا فيها الخيام، ورفعوا الشعارات على الطريقة العربية، ورفعوا أيضاً الأعلام العربية (المعادية، ولعلهم رددوا أيضاً قول درويش: أعداؤنا يشعلون لنا النور في حلكة الأقبية).. كما خرج الشباب الأمريكي أو من سمّوا ب"الشعبويون الجدد" وافترشوا الساحات، ونصبوا خيامهم، وقالوا بأنهم سيتبعون أسلوب الربيع العربي الثوري المتمثل في الاحتلال الجماعي للساحات والميادين من أجل استرجاع الديمقراطية في أميركا!.. رافعين لافتات تُذكّر بأبرز شعارات الربيع العربي من قبيل "الشعب وليس الأرباح" و"الشعبوية وليس فاشية الشركات". لقد مكّن هذا الربيع العرب من إعادة اكتشاف أنفسهم أولاً كما يقول الفيلسوف الفرنسي وأستاذ العلاقات الدولية بيير هاسنير، كما مكّن بقية العالم من إعادة اكتشافهم ، وشحن حكايتهم بالأسطوري والسحري الذي يتجاوز كل حدود. وعلى الصعيد القيمي، يقول هاسنير: «أن الربيع العربي كان له الفضل أيضاً في إعادة الإيمان بالديمقراطية إلى الناس في معظم أنحاء العالم، وبالتأكيد في أوروبا؛ حيث صارت المجتمعات الديمقراطية منساقة وراء الفردانية الأنانية. وها هي اليوم تعيد اكتشاف أمثلة على التضحية في سبيل الحرية والكرامة الشخصية والوطنية. كما أنه قضى على فكرة "صراع الحضارات"، وذلك لأنها أهملت الصراعات الداخلية في قلب كل حضارة بين القبائل والدول المختلفة، والمصالح الاقتصادية والسياسية المختلفة، والمقاربات المختلفة للحياة، والقراءات المختلفة للدين والطرق المختلفة لممارسته، وتجاهلت التأثيرات المتبادلة، والحوار بين الحضارات والأحلاف، وبين الأفراد والجماعات المنتمية إلى ثقافات مختلفة، لكن ذات عناصر مشتركة مثل العمر والوضع الاقتصادي أو المراجع الثقافية أو وسائل الاتصال». وإذا كنّا قد حاولنا في تتبعنا السابق رصد التأثير الجامح الذي تولده الثورات الشعبية التحررية عموماً، وثورة ما سمّي ب"الربيع العربي" على وجه الخصوص، في مخيلة الشعوب المتطلعة بالفطرة للتحرر عن كل سلطة، وذلك بهدف الوصول لفهم الشروط والمتغيرات الجذرية التي دفعت مؤسسة تقليدية مثل "أكاديمية نوبل" لمنح امرأة مسلمة محافظة جائزتها للسلام، أو ما اعتبرناه "ربيع ثوري" في الأكاديمية السويدية نفسها. لكن المشكلة، أن الإشكالية تبقى قائمة، فأوروبا اليوم، وبمؤسساتها المختلفة، تتجه بقوة نحو النزعات اليمينية المتشددة، وتحاول أن تغلق نفسها على ذاتها وقيمها خصوصاً فيما يتعلق بعلاقاتها مع ما يمكن أن نسميه "النموذج الإسلامي المحافظ". فما الذي يعنيه إذن، أن تقوم أوروبا الآن بتكريم هذا النموذج من قبل أعرق مؤسساتها على الإطلاق، وتجعل منه رمزاً عالمياً؛ بينما هي في الواقع، تقوم في كل يوم، بسن القوانين التي تقيده وتضيق عليه الخناق حتى وكأنه كائن يحمل مشكلة أزلية في ذاته لمجرد مظهره الخارجي؟.. وإذا ما أعدنا طرح السؤال، ولكن بطريقة أخرى: هل سيُشكل، في حين قررت "توكل كرمان" باعتبارها رمزاً عالميا الوقوف مثلاً بجانب الفتيات الفرنسيات "المحجبات" و "المنقبات" اللاتي يُمْنعن من دخول المدارس والمؤسسات بسبب حجابهن ونقابهن الإسلاميين، هل سيُشكل ذلك حرجاً لفرنسا، أو أي دولة أوروبية أخرى تنهج نفس السلوك؟.. وإذا ما قررت "كرمان" أيضاً الوقوف بجانب إحدى الحركات الإسلامية (كتلك التي لا تؤمن بحق إسرائيل في الوجود)، ويضعها الغرب على قائمة الإرهاب، فهل سيُشكل ذلك أيضا حرجاً للغرب؟.. كان يمكن للأكاديمية أن تكرم الربيع العربي، قد يقول قائل، ولكن على طريقتها التقليدية، وبما يكرس قيمها وثقافتها، خصوصاً وأنه كان لديها، هذه المرة، مساحة كبيرة لانتقاء الفائر بعناية من بين طيف واسع من رموز الربيع العربي اللذين ينتمون لمختلف الاتجاهات والمشارب.. كما لن يتسبب تجاهل "كرمان" بذلك الحرج الذي تسبب به مثلاً تجاهل الأسطورة "المهاتما غاندي"! فهل حقاً، نحن أمام "ربيع ثوري" حقيقي في قلب التقاليد الراسخة للأكاديمية السويدية العريقة؟.. أم أنها، وكما هي العادة دوماً، الحبال السياسية التي لا تخلو منها جعبة جوائز الأكاديمية؛ ولكن هذه المرة ليس انتصاراً للقيم (الغربية)، بل انتصاراً للمصالح (السياسية والاقتصادية) كما يقول السياسيون؟!.. فالعالم العربي على مشارف أن يدخل عصراً إسلاميا بامتياز، أي عصر سنشهد فيه هيمنة للحركات الإسلامية السياسية.. فلِما لا تكون هذه الجائزة إشارة "حسن نية", "تطهر" أو "تطهير" غربي من كل الرواسب السابقة ( واللفظان استخدمهما الأستاذ هيكل لوصف عملية دفع المؤسسة السياسية الأمريكية برجل أسود إلى قمة السلطة بعد تلطخ سمعتها الخارجية بجرائم بشعة في حربي العراق وأفغانستان) وذلك بهدف الدخول في علاقات مستقبلية وطيد مع الحركات الإسلامية السياسية التي يرى الغرب أنه بالإمكان التعاطي معها، ويمكن أن تمثل في المستقبل امتداداً لفكر وأسلوب حزب العدالة والتنمية التركي؟!..