كم يا ترى كان عدد المسلمين منذ غزوة احد إلى فاجعة بئر معونة ؟ .. لا شك إن عددهم كان قليلا بالقياس إلى عدد الشهداء الذين قضوا نحبهم في هذه الفترة الوجيزة , مائه وخمسون شهيدا ارتقوا إلى ربهم فرحين مستبشرين بما أتاهم الله من فضله , سبعون شهيدا في احد وعشرة في فاجعة بئر الرجيع وسبعون من فضلاء الصحابة من القراء في فاجعة الغدر اللئيم في بئر معونة . كم خلف هؤلاء من أرامل وأيتام ؟ وكم خلفوا من أب مكلوم وأم ثكلى ؟ وكم من دموع حرت وذرفت على فقدانهم ؟ هذا العدد يعتبر بالنسبة لعدد المسلمين وقتئذ هائلا وكبيرا جدا , والمصيبة بفقدانهم – الإسلام لم يستو على سوقه بعد موجعه – فما كاد المسلمون يضمدون جراحاتهم وآلامهم بعد أحد حتى نكئت الجراحات مرة أخرى في الرجيع وبئر معونة .
لقد خلفت هذه المواجع في نفس النبي وأصحابه أثارا غائرة , وخصوصا في فاجعة قراء الرجيع السبعين الذين قتلوا غدرا في مجزرة رهيبة دنيئة تدل على خسة فاعليها , مما جعل النبي يقنت شهرا متتابعا في الصلوات الخمس , ويؤمن على دعائه من خلفه , وهذا إن دل على شي فإنما يدل على فداحة المصيبة وكارثية الفاجعة وعظم الصواب وشدة الألم لكن ذلك لم يفت في عضد المسلمين , ولم يثن عزمهم في مواصلة الدعوة والبذل والتضحية خدمة لدين الله لان مصلحة الدعوة أهم من الأنفس والدماء بل إن الدعوة لم تنتصر إذا لم تهرق الدماء الزكية التي تضمح بعبقها وأريجها جسم الدين والعقيدة .
إن هذه الحوادث نماذج من التضحيات الهائلة التي قدمها الصحب الكرام , ليسقوا بدمائهم شجرة الإسلام الطيبة حتى تؤتي أكلها بإذن ربها نصرا وعزة وكرامة وفتحا مبينا , وفوق ذلك محبة الله جزاء على إحسانهم , وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان .. إن كل المصائب والفواجع والآلام تتوارى حياء ام هذا الفيض الرباني وحيال رفقة المحبة الربانية , انه الكرم والجزاء الذي لا يعادله جزاء .
يا أهلنا ويا إخواننا ويا أحبتنا ويا من قمتم في وجه اعتى طاغوت يؤزه طواغيت على شاكلته في الإجرام ويا من وقفتم شامخين كالكود الأشم الراسخ في وجه الأعاصير المائجة من شياطين الجن والإنس تستعيدون الحرية والعزة والكرامة والشموخ , ويا من بذلتم وقدمتم وفقدتم الأحبة والخلان ويا من سلبت أموالكم وهدمت بيوتكم وسالت دماؤكم الطاهرة , فلكم سلف في النبي وصحابته وهذه هي سنة الله في الدعوات والرسالات .
إن استعادة الحرية المسلوبة تحتاج لثمن وقد دفعتم الثمن وقبضتم الأجر وأديتم ما عليكم فالله لا يخلف الميعاد , والجزاء مضمون عند الله ولا تظنوا إنكم وحدكم في الميدان , فان الله معكم والملائكة تثبتكم وورائكم أمة من المؤمنين في كل الأرض قلوبها معكم تتوجع لمصابكم وتتألم لآلامكم وألسنتها تلهج بالدعاء لكم .
لقد اتصلت أسباب الأرض بأسباب السماء وما هي إلا لمحة خاطفة كلمح بالبصر , فإذا الباطل زهوق وإذا النصر يتنزل كالبرق .. نعم لقد استاجركم الله وقمتم بحق الإجارة وقبضتم الثمن , وايم والله إنا لنغبطكم على الاختيار وانه لذو شرف لكم إن تكونوا أهلا لهذا الاختيار الرباني , فالله لا يصطفي للمهمات العظيمة إلا العظماء .. فامضوا في طريقكم ثابتين على الدرب , ففي الكون شموس وأقمار وآمال .. وارتقبوا النصر فانه قريب بإذن الله .. قريب قريب .