تتوالى فعاليات الحراك الجنوبي التي تؤكد رفضها المشاركة في الحوار الوطني و بشكل شبه يومي، انطلاقا من إصراره على حوار ندي بين دولتين و على شرط أن يفضي إلى الانفصال، و من الأهمية بمكان الوقوف على أبرز الأسباب و العوامل التي تجعل من رفض الحراك للحوار أمرا لا جدال فيه و موقفا يصعب تغييره، سواء في ذلك الأسباب التي تكشف عنها مكونات الحراك أو التي تنطلق منها دون الحديث عنها تصريحا أو تلميحا، بغض النظر عما إذا كنا متفقين مع ما يعلنه الحراك أو مختلفين. تجدر الإشارة هنا إلى أن الحديث عن رفض الحوار من قبل مكونات الحراك و في مقدمتها التيار الذي يتزعمه علي سالم البيض لا يعني الجزم بوجود رفض قاطع ملزم لكل من لهم صلة بالحراك الجنوبي، فربما يحدث اختراق في جدار الرفض و الممانعة، و قد يشارك البعض في الحوار إما ممثلين عن مكونات مرتبطة بالحراك بشكل أو بآخر أو بطريقة شخصية، و التجربة السابقة في الشهور الماضية من الإعداد لمؤتمر الحوار كشفت عن جانب من ذلك، كما أن العطاس في تصريحاته التي نشرت مؤخرا لمح إلى إمكانية حدوث شيء من هذا حين أشار إلى ما أسماه (استنساخ مكونات الحراك)، و هناك أسباب و عوامل تأتي من خارج الحراك، و ليس له صلة مباشرة بها، لكنه استفاد منها و لا يكف عن استخدامها في ترويج فكرته و تدعيم موقفه الرافض لكل مخرجات التسوية السياسية عموما و الحوار بوجه خاص، و أبرزها: 1- إخفاق الثورة الشعبية السلمية في تحقيق الأهداف التي انطلقت لأجلها، و إن حققت بعض ما يصبو إليه الشعب من تغيير في هيكل النظام الذي يحكم البلاد لما يزيد عن ثلاثة عقود، إذ بدت الثورة شبه ناقصة و أبقت على بعض رموز النظام علاوة على منح رأسه حصانة استغلها في إعاقة الانتقال السلمي للسلطة و ظل يعمل بكل ما أوتي من إمكانات و أموال و نفوذ لإجهاض العملية السياسية، و هو ما دفع كثيرا من الجنوبيين للالتحاق بصفوف الحراك على أمل "فك الارتباط" بكل ما له صلة بمنظومة العمل السياسي في المركز (سلطة و معارضة)، مع الإشارة إلى أن ثمة من التحق بالحراك ممن كانوا محسوبين على النظام السابق ليس اقتناعا بعدالة ما يحمل من قضية و إنما لتصفية الحساب مع مكونات الثورة و القوى المشاركة في الثورة و صارت شريكة في الحكم وفقا للمبادرة الخليجية التي بموجبها حصلت المعارضة على نصف الحكومة و انتقلت الرئاسة لرئيس جديد، 2- تردي الأوضاع الاقتصادية و المعيشية و ارتفاع معدلات الفقر و البطالة، دفع بالمواطنين بعيدا عن دائرة التفاعل مع العملية السياسية التي تتضمن انتقالا سلسا للسلطة و مؤتمرا للحوار الوطني، و البحث عن صيغ أخرى للتعبير عن الرأي المعارض لما آلت إليه التسوية، و بالتالي بدا الحوار الوطني مهمة محصورة على النخب فقط، و هو ما وفر في الجنوب أرضية خصبة تتنامى عليها قاعدة رافضة للحوار، 3- طبيعة التسوية ذاتها بدا معها الرئيس هادي مكبلا إلى حد ما بتوازن قوى و مصالح متعددة، بالإضافة إلى أن التركة الهائلة التي ورثها عن سلفه حدت من قيامه بإجراءات ضرورية و عاجلة من شأنها، ناهيك عما أظهره الرئيس من تباطؤ في اتخاذ إجراءات سريعة و حاسمة تحقق الحد الأدنى من طموحات اليمنيين الذين سئموا المماطلة و التسويف في تنفيذ خطوات كان يجب أن لا يضيع الوقت في انتظارها، و بدا أن كثيرا من الاجراءات التي اتخذها الرئيس ظلت في كل مرة تأخذ وقتا كثيرا ناهيك عن وجود حالات تمرد ضد بعضها من قبل عائلة الرئيس المخلوع، و اصطدام بعضها الآخر بمعوقات و عراقيل ساهمت في رفع منسوب الاستياء و السخط الشعبي لدى غالبية المواطنين و الجنوبيين منهم بصفة خاصة. 4- التراكمات السلبية في بنية الأجهزة الأمنية و بعض وحدات الجيش حدت من القيام بإصلاحات حقيقية في المؤسسة الأمنية و العسكرية و بما يحرر منتسبيها من الارتباط بأفراد و مراكز تعمل خارج القانون، و تسعى جاهدة لإفشال العملية السياسية و تشجيع أعمال العنف و الفوضى باستخدام إمكانات الدولة و مواردها المختلفة، خصوصا تلك التي ظلت- و لا تزال- واقعة تحت سيطرة الرئيس المخلوع و نجله، و هذا بدوره أضاف أعباء و تحديات جديدة، و بالتالي أجاد الحراك الجنوبي توظيف هذه التحديات و معه القوى الرافضة لما آلت إليه التطورات السياسية وفقا للمبادرة الخليجية. و هناك في المقابل عوامل و أسباب تتعلق بالحراك ذاته و أدائه السياسي و خطابه الإعلامي، و في مقدمتها: 1- تحديد الحراك لمطلب الانفصال بين الشمال و الجنوب و فك الارتباط و اعتباره الهدف الوحيد و عدم القبول بأي موقف أو رؤية أخرى للقضية، جعل الخيارات أمامه ضيقة و محصورة في التصعيد الجماهيري و الإعلامي لتحقيق ما يهدف إليه، و الحوار ليس مطروحا في هذه الحالة و تبعا لهذا الموقف لن يكون واردا أن يشارك الحراك – بصيغته الإجمالية- في مؤتمر الحوار، خصوصا و الحراك يطرح مطلبا واحدا ووحيدا يتمثل ب(الانفصال) و هو ما يعني أن الحوار يجب أن يقود للانفصال و لا شيء غيره، و تتعالى صيحات الرفض كلما وجد الحراك مؤشرات تتحدث عن الحرص على استقرار اليمن و أمنه و (وحدته) سيما تلك المؤشرات التي تتضمنها قرارات مجلس الأمن و مسئولي الدول الكبرى الراعية للحوار، إذ تقرأ تلك المؤشرات من قبل الحراك بوصفها خطوطا حمر لا يمكن تتجاوزها، و كلما أبدى المجتمع الدولي حرصه على وحدة اليمن كلما زادت وتيرة الرفض. 2- علاوة على الرفض المعلن من قبل مكونات الحراك و خصوصا التيار المعروف باسم (فصيل البيض)، فإنه أحيانا يظهر ما يشبه الموافقة على المشاركة في مؤتمر الحوار لكن المؤكد أن هذه الموافقة المشروطة تحمل في طياتها الرفض المطلق للحوار، إذ يصر الحراك – أو من يتحدثون باسمه و يكتبون بياناته – على اشتراط أن يكون الحوار بين دولتين- أي أنه يجب التعامل مع الانفصال باعتباره صار أمرا واقعا و لم يعد مجرد هدف يسعون لتحقيقه، و هو ما لا يمكن التعاطي معه بجدية من قبل الأطراف المشاركة في الحوار و معها الأطراف و الدول الراعية للمبادرة الخليجية و آليتها التنفيذية و الداعمة للحوار الوطني، و ما يمكن التفاعل معه في هذا الجانب يتجلى في منح الجنوبيين الطمأنة اللازمة من خلال اللجنتين الرئاسيتين التي شكلهما الرئيس بهدف إعادة المبعدين من أعمالهم و الوقوف على مشاكل الأراضي و الممتلكات العامة و الخاصة، باعتبار المشكلتين- الاراضي و المبعدين- من أهم المشاكل التي خلفها النظام السابق بممارساته السلبية في المحافظات الجنوبية، إضافة لذلك تم منح الجنوبيين نسبة تمثيل لا تقل عن خمسين بالمائة، و مناصفة لجان الحوار و تشكيلاته بين الشمال و الجنوب، ناهيك عن اعتبار القضية الجنوبية في صدارة قضايا مؤتمر الحوار. 3- علاوة على اشتراط الحراك أن يكون الحوار بين دولتين، نجده يشترط في السياق ذاته أن تكون نتيجة الحوار مفضية للانفصال، و المعنى وفقا لهذا الطرح أن يأتي إلى طاولة الحوار طرفان أحدهما يمثل الجنوب و الآخر يمثل الشمال، و يتفقان على إعلان الانفصال، و هو ما يعني أن الحوار هنا سيكون مجردا عن مضمونه الحقيقي و سيغدو أشبه باحتفال رمزي يعلن فيه الانفصال و يرفع كل طرف علم بلاده. 4- المضمون الذي يمكن استخلاصه من خطاب الحراك منذ اطلاقته يفيد أنه لا حل إلا من خلال الانفصال، و أي طرف أو تيار أو فصيل أو شخص يعمل خارج هذا الإطار سينظر إليه على أنه لا يمثل الحراك و لا يعني الجنوبيين ما سيخرج به، و هو ما يقود إلى استنتاج واضح مفاده أن من يخرج عن هذا المربع يعد خارجا عن الإجماع و لا يعتد برأيه- حتى لو كان البيض نفسه. و السؤال هنا من ممن يعدون أنفسهم قيادات سيجرؤ على المغامرة و المخاطرة و التضحية باسمه و موقعه الذي وصل إليه عبر التصعيد المتواصل تحت راية الانفصال و فك الارتباط؟