كنت يوماً أسير بجانب قصر الحاكم ، وإذ بي أسمع أنين رجل كأنه مريض أو معلول ، فأخذني حب معرفة مصدر هذا الصوت ، وقررت أن أُجازف وأنظر من فتحة صغيرة في سور القصر، لعلي أعرف من صاحب هذا الصوت ؟ فإذا به رجلاً طاعناً في السن ، يتلوّى من شدة الألم ، مقيداً بسلاسل حديدية ، ومسجوناً في قفص من الحديد موضوع إلى جانب سور القصر من الداخل . فأشفقت على حالته ، وناديته بصوت خافت حتى لا يسمعني حرّاس القصر فيبطشوا بي ، وسألته ، ماذا أصابك ؟ ولماذا وضعوك داخل هذا القفص ؟ ولماذا أنت مصفد بهذه الأغلال ؟ فالتفتَ إلي وقال بصوت فيه غصة ويملؤه شعور بالأسى والغبن : أمواسياً سألتني أم شامتاً ؟؟ قلت : بل مواسياً و مشفقاً ، ولماذا أشمت فيك أصلاً ؟ قال : إذن فاسمع قصتي من أولها ، حتى وصلت إلى هذه الحال التي تشاهدني عليها: قصتي يا هذا ، أنني مخلوق من خلق الله الكثير، أنعم الله عليَّ بعقل ذكي ودهاء ومكر ، فاستعملت هذه النعم في معصية الله والتفريق بين الناس وزرع الفتن بين بني البشر، وفي يوم من الأ يام ، وجدت طفلاً يتيماً فعطفت عليه وشعرت ناحيته بشعور غريب وكأنه ولدي ، بل رأيت في صفاته شيئاً كثيراً من صفاتي ، فقررت أن أرعاه وأن لا أفارقه أبداً ، فترعرع في ظل رعايتي وحفظي ، وتعلم مني كل فنون المكر والخداع والكذب ، حتى أصبح متشرِّباً هذه الخصال من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه ، وكنت مستشاره الدائم والمقرب ، فلا يقطع أمراً في كل شؤون حياته ومعاملاته إلاّ بعد العودة إليَّ وأخذ رأيي ، حتى استطاع بفضل ما علمته من المكر والحيل ، أن يصبح في مكانة عالية جداً ، وأن يقفز في ليلة وضحاها ليتربع على أعلى المراتب ويصبح الحاكمُ بأمره . وكنت من حبي له لا أبخل عليه بنصحي ومكري ودهائي ، فكم من أناس تآمر عليهم وظلمهم ، وكم أناس قتلهم ، وكم أموال نهبها ، وكم فتنة زرعها ، وكان كل من يقف في وجهه او يخالفه ولايسير في نفس طريقه ، فإنه يسحقه ولا يرحمه ، وكل من يحاول أن ينال من المكانة التي وصل إليها ، فإنه يخيّره بين الحياة دون أن يفكر مجرد التفكير بهذه المكانة ، أوالموت بحادثة تقيد ضد مجهول ، وكنت أنا المخطط والمدبر لكل أعماله تلك ، بل أنه وصل إلى التفكير بجرائم وأفكار لم تخطر ببالي يوماً ولم أكن أتوقع أن يصل إلى تلك الدرجة ، وأنا من علّمه المكر والخداع . استمر عقوداً من الزمن يسوم الناس سوء العذاب ، فقتّل أبناءهم ، وأكل أموالهم ، ونهب ثرواتهم ، وزرع بينهم الأحقاد والفتن ، وأدخلهم في حروب طاحنة ليس لهم فيها ناقة ولا جمل ، ونشر فيهم الأمية والفقر والمرض ، وسيطر على كل مجريات حياتهم . كان الناس يشعرون بالظلم والقهر والإستبداد الذي يمارسه عليهم ، ولكن ضيق ذات اليد ، والضعف الذي أوصلهم إليه ، وزرع الخوف في نفوسهم من خلال البطش بكل من يقف في طريقه ، جعلهم يصلون إلى قناعة بأن لا مخرج لهم من هذه الحال ، إلاّ أن يتوجهوا بالدعاء الى الله أن يتفضّل عليهم بفضل من عنده ، فيعجّل بأجل هذا الطاغية فيستريحون من ظلمه ومن بطشه . لكن المساكين ما كانوا يعلمون أنه يدبِّر ويخطط لتولية ولده عليهم من بعده ، فقد طلب مني أن أتولى تدريب ولده كما دربته هو من قبل ، وقد دربت الولد لفترة ، لكنه كان غبياً ، ورث عن أبيه الحقد وكره الناس ، ولم يرث منه الفطنة والنباهة وسرعة البديهة . لذلك قلت لأبيه لافائدة من ولدك هذا ، وسأكون مستشارك حتى ينتهي عهدك في الحكم ، ثم أترك قصركم هذا ، فبعد انتهاء عهدك لن يكون لي مقام في هذه البلاد ، وسأعود إلى بني عمي الذين علموني هذا الفن وهذا الإبداع في المكر والكذب والخداع ، فهم يعملون منذ عقود كثيرة ، كمستشارين لحكام البلاد التي بجواركم ، وهم من يدفع بحكام تلك البلاد ، إلى مناصرتكم ودعمكم في كل ما تفعلون . تسرب خبر تولية الحاكم لولده من بعده إلى مسامع الناس ، فبدأت أصواتهم ترتفع ، وبدأوا يتنادون للخروج إلى الساحات ، وكان لسان حالهم يقول : صبرنا على هذا الحاكم وعلى ظلمه عقوداً من الزمن ، أفنصبر على ظلم ولده من بعده ، لا والله لن نسكت على هذا الأمر أبداً ، وخرجوا آلافاً مؤلفة يرفعون أصواتهم لخلع الحاكم واختيار حاكم يرضونه ويثقون بعدله وإنصافه . استبطأ الولد أجل أبيه ، وقد كان في شوق إلى الجلوس على كرسي الحكم . وخشي أن ينجح الناس في خلع أبيه ، قبل أن يجلس على كرسي الحكم ، لذلك قرر الولد التخلص من أبيه ومن معه من المساعدين ، ثم الاستيلاء على الحكم . فدبّر مكيدة عظيمة ولم يستشرني في تدبيرها ، فهو يعلم مكانة أبيه عندي ، فكان أن لغم المكان الذي يجتمع فيه الحاكم مع مساعديهومستشاريه. 2 وعندما كان والده يجتمع مع مساعديه لتدبير مصيبة ما ، من مصائبهم التي أوهنت كواهل الناس ، ويتدابرون أمر الأصوات العالية التي تعترض على استخلاف الولد ، وكنت جالساً بجانب الحاكم ، فهو لا يستغني عن مشورتي أبداً ، بل إنه أحياناً يترك نصيحة ورأي كل من حوله بل كل البشر ، ويتّبع رأيي ومشورتي ، فهو لا يثق بأحد غيري ، فأنا من رباه وعلمه فنون المكر والكذب والخداع ، حتى أنني كنت أخالُه أحياناً قد تجاوزني وتفوق علي . وبينما نحن جلوس في هذا الإجتماع ، إذ بانفجارٍ عنيف يطلق حمماً من الغازات الملتهبة في كل أجزاء المكان الذي كنا نجتمع فيه ، فما كان منّي إلاّ أن ارتميت على الحاكم بجسدي ، وحاولت أن أحميه من تلك النار ، لكنني لم أستطع حمايته حماية كاملة ، ولكني خففت عنه ولو شيئاً بسيطاً من النار ، فعلت كل ذلك لأني أعلم جيداً ، أنني لو بحثت في كل الدنيا فلن أجد من يكون مخلصاً لي حريصاً على الأخذ بمشورتي مثل هذا الحاكم . وبعد الحادث ، كان الحاكم في حالة خطِرَة ، فاتصلت إلى شيوخي وبني عمي في البلاد المجاورة ، وطلبت منهم أن يشيروا على حكام تلك البلاد ، باستقدام الحاكم المجروح لعلاجه عندهم ، وعلى الفور استجاب حكام تلك البلاد لطلبهم ، فهم أيضاً مخلصون لا يقطعون أمراً ، إلاّ بعد استشارة شيوخي وإخواني الذين يعملون لديهم. جلس الولد على كرسي الحكم ، والشعب قد ملأ الساحات والميادين يهتفون لخلع الحاكم وأولاده ، فمكث الولد يخبط خبط عشواء ، فيضرب يميناً وشمالاً ويقتل ويهدم ويسرق وينهب ، وفجأة وفي ليلة مظلمة عاد الحاكم متخفياً ودون أن يستقبله أحد ، وعند وصوله استدعاني على الفور، وطلب منِّي أن أتدبر أمر هذه الجموع بحيلة من حيلي وأفكاري ، مثلما كنت أفعل طوال العقود التي قضيتها معه . فقلت له يا سيدي ، هذه المرّة الأمر أكبر من إمكانياتي وأفكاري، الأمر هذه المرة متعلق بإرادة الجماهير ، وإرادة الجماهير من إرادة الله ، فماذا عساي أفعل أمام إرادة الله ، وما استطعتوا فعله ، هو أن دعوت شيوخي وبني عمي في البلاد المجاورة ، أن يوعزوا إلى حكام تلك البلاد بفكرة ما ، لينقذوك مما أنت فيه ، فاستجابوا لدعوتي هذه وجاؤوك بخطة تخرجك مما أنت فيه ، وقدموا عرضاً لو أن خصومك رفضوه لتمت الخطة ، ونجوت ونجا حكمك ، لكنهم فعلوا عكس ما توقعنا أنا وأنت ومن وضعواهذه الخطة ، وكان خصومك على درجة من الذكاء والفطنة ، هذه الدرجة لا يؤتاها إلاّ من اهتدى بنور الله ، وعمل بالأسباب الموصلة لمرضاة الله . وقد نبهتك منذ زمن بعيد ياسيدي ، أنني وبقدر ما أخلصتَ معي ، سأكون صادقاً مخلصاً معك، لكنني نبهتك أيضاً ، أن حِيَلي ومكري تقف عاجزةً أمام قدر الله وحكمته ، وما كان لديك من مخرج غير هذه الخطة ، أما وقد عدت إلى البلاد ، فليس أمامك إلاّ أن تقتل منهم ما استطعت أن تقتل ، ثم تولي مدبراً إن تيسر لك ذلك ، فإنهم واصلون إلى قصرك لا محالة ، فانتظر قدرك المحتوم أنت وأولادك ومن معك من شياطين الإنس ، فإن المكر والدهاء الذي نملكه أنا وأنت وجميع مستشاريك ، لن يغني عنكم من قدر الله شيئاً .. فما كان من هذا الحاكم إلاّ أن أمر جنوده فقيدوني بالسلاسل ، ووضعوني في هذا القفص الحديدي في العراء ، تلفحني أشعة الشمس ، ويطويني برد الليل الغارس ، فإمّا أن أدبّر له مخرجاً ومكيدة تنجيه وتبقيه على كرسي الحكم ، أو أظل على حالي هذه حتى أموت ... هذه قصتي يا هذا .. فهل صدقتني أم لا ؟؟ . قلت : كل ما في قصتك معقول وأصدقه ، إلاّ شيئاً واحداً يجعلني لا أصدقك ، وهو كيف أنك حميت الحاكم بجسدك ولم تحترق فتموت ؟؟ قال : أنا لا تؤثر ناركم هذه على جسدي ، ولا تحرقني .. فأوجست منه خيفة !!!! ثمّ تمالكت نفسي وقلت له ، أسألك بالله الذي خلقك ، من تكون ؟؟؟ قال : أنا إبليسُ الجانّ المشهور بحسدي وحقدي على البشر ، وقد جُبِلتُ على حسدي وحقدي عليكم ، وهي رسالتي في الحياة الدنيا ، لكنني أعترف لك أن حاكمكم هذا ، بل (إبليسَكُم) قد فاقني حسداً وحقدا عليكم.