اليمن ليس بحاجة لمن يرشده ويدله لطريق التجزئة والتمزق ؛ فمثل هذا المسلك لطالما خبره وجربه اليمنيين ولحد الانسلاخ والتشرذم إلى دويلات وسلطنات ومشيخات هي أشبه بكانتونات لا تتعدى جغرافيتها الكيلومترات من الأرض ناهيكم عن كثافتها البشرية التي لا ترقى الواحدة منها لمصاف النازحين من أبين إلى مدارس عدن والذين يتجاوز عددهم مرات سكان جمهورية دثينة . نعم نحن بمسيس الحاجة لمن يدلنا ويهدينا إلى طريق التوحد، فما من شك أننا أخطانا السبيل مذ البداية ! ولكن ذلك لا يلقي باللائمة على التوحد كغاية وجادة لا يبلغهما سوى الرجال المتوحدين ، أيا كان السخط والانكسار الحاصلين في الجنوب ، ففي النهاية لا يمكن الحكم على غضبهم وقنوطهم بأنه نتاج لفشل وإخفاق التوحد لذاته ،فربما هو نتيجة خطا السبيل الذي وقعت فيها دولة الجنوب مذ الخطوة الأولى . المعجزات وليدة الرجال المتوحدين ، قول أثير من الهند بلد المليار إنسان وعشرات اللغات واللهجات والمعتقدات والأعراق ،نعم قد يرى البعض الحل في الهرولة إلى الخلف ، آخرون رأوا الحل في الهروب إلى الأمام ،وهناك صنف ثالث -وهم باعتقادي الغالبية الصامتة – لا مع الهرولة أو الهروب ، فكلا السبيلين في النهاية هما نتاج حالة واحدة عنوانها اليأس والقنوط من الحاضر الراهن ، ففي كل الأحوال يتوجب علينا التأسيس لحالة ثالثة مختلفة بحيث نتحاشى السقوط في مهاوى الماضي ونتجنب كارثة الانزلاق في المستقبل . من يقرأ التاريخ سيجده زاخر بالنجاح والفشل ،البناء والهدم ، التوحد والتمزق ، الانتصار والهزيمة ، التواريخ المشرقة والمؤلمة ، قيادات تاريخية نهضت بشعوبها وقادت أوطانها إلى ذرى التطور والقوة وبالمقابل هناك قيادات ستظل ذكراها لصيق للخراب والدمار والكارثة والحروب . الذين لا يقرؤون التاريخ سيجدون أنفسهم يعيشون في أخطائه ثانية وثالثة ، فالحضارات القديمة لم تشيخ وتنهار بسبب شعوبها المتعددة والمختلفة لغة وعرقا ودينا وثقافة وإنما بسبب ساستها الذين شاخت وهرمت أفكارهم وطرقهم ، الكيانات الكبيرة الموحدة اليوم قد تبقى موحدة وقد تفشل ولكن المسألة هنا تتعلق بالنخب والأفكار والمنافع العائدة على الشعوب المتحدة وليس لأن المسألة لها صلة بالفروقات الاثنية واللغوية والدينية . اليمن سكانه ومساحته لم يكونا في يوم من الأيام سببا لتفككه وتجزئته ، فعلى العكس من ذلك ظل اليمنيون موحدون حتى في زمن الدويلات الصغيرة ، لا أعود بكم إلى العصر الوسيط الذي عرفت اليمن فيه دويلات كُثر وفي وقت واحد ، سأحدثكم عن جنوب ما قبل الاستقلال 30نوفمبر 67م فمساحة هذا الجنوب قدرها 320الف كيلو متر مربع فيما سكانه اقل من المليون نسمة . ومع ضيق الحيز وقلة البشر كان هناك 23سلطنة وإمارة ومشيخة لكل منها حدودها وعلمها وسلطانها ؛ لم تمنع أو تحول هذه المسميات والحدود من عملية الاندماج في كيان اتحادي واحد –باستثناء حضرموت القعيطية والكثيرية – اسمه اتحاد الجنوب العربي الذي تم إعلانه نهاية الخمسينات برعاية انكليزية ، كما أنه وبمجرد نيل الجنوب استقلاله تم توحيد مساحة الجنوب وسكانه تحت كيان دولة وطنية واحدة من المهرة وحتى مضيق المندب . الخلاصة لدينا مشكلة جوهرية وأساسية كامنة في كيفية ادراة البلد وأهله بذات الأفكار والأساليب القديمة وبذات المنطق والوسيلة والشخوص التي تواترت على حكم اليمن إلى أن وصلت به إلى هذه الوضعية البائسة والمهلكة لكل أناسه . الواقع أننا إزاء فشل سياسي قاتل ومدمر لكل فكرة ايجابية من شأنها إنقاذ البلد من الانهيار والضياع وإزاء يأس قانط من كل شيء ، النتيجة بالطبع كارثية ومأساوية ، لا أدري لماذا يرهن مصيرنا بالعاجزين والمتشائمين ؟ ولماذا علينا الفرار إما هرولة إلى الوراء وإما هرولة إلى الأمام ؟. فمثل هذه الأفكار والقيادات لن تفلح برفعنا إلى النجوم بل ستلقي بنا في الثرى ،هذه الثورة يجب أن تحرر اليمنيين من ربق الفشل واليأس المستبدين بهم، نعم اليمن أسير الجمود والجحود فإما وحدة جاحدة بقوة الغلبة المنتصرة في الحرب وإما تجزئة جامدة برغبة الأقلية المهزومة ، كلا الخيارين لا حياة مشرقة منتظرة منهما بقدر ما يفتحان للتهلكة والموت . الأوطان لا تنهض وتتقدم لمجرد رغبة أو أمنية في تحقيق ذلك أنما النهوض بالأمم يستلزمه إرادة وقيادة استثنائية وأيضا أفكار مبتكرة ، للأسف جميع هذه الأشياء غائبة كليا ، فكل ما هو متاح لا يؤسس لبناء دولة ناهضة ومستقرة في المستقبل بل يعيد تكريس ما كان سائدا في الجنوب والشمال . مؤخرا قرأت أفكارا جريئة نابعة من صميم المشكلة والحل لا طافحة بالشعارات والرؤى الثورية السائدة في حقبة السبعينات ، ليس للمسألة علاقة بالرغبات الأنانية الضيقة وإنما كون هذه الأفكار جديدة ومبتكرة وقبل ذا وذاك تأصل ليمن جديد يمكن البناء عليه قواعد ومداميك دولة موحدة قابلة للحياة المستقرة والمزدهرة ، نعم هذه الأفكار قد تبدو غريبة وغير مستوعبة للكثير منا لكنها ومن حيث مضامينها تؤسس لدولة مدنية اتحادية نقيضه لحالة اللا دولة واللا دولتين . دعكم من الأفكار الجامدة عند براميل الشريحة وسناح أو براميل نفط المسيلة وجنات ، فمثل هذه الأفكار لا تؤسس لبنيان وطن متين ومتماسك ، دعكم مما قاله نظام صالح القاتل للوحدة المجتمعية ومما سيقوله من الآن وصاعدا عن وحدة سياسية تم وئدها في المهد ، لنتحدث عن وطن أخر نقيض هذين الاثنين . وطن جدير بان نعيش من اجله لا أن نموت دوما في سبيله ، كثيرا ما كان فشلنا ناجم من مواجهة المشكلات والأزمات بالفرار منها إلى الخلف أو الأمام ، في ظرفية ثورية كهذه لا يليق بنا الهروب جنوبا أو شمالا ، أنه لمن المخجل والمعيب أن نسلم أحلامنا ومستقبلنا وحياتنا لأولئك اليائسين والخائبين ، مثل هؤلاء لا يبنون مجدا وشرفا ووطنا بل يهدون ويدمرون كل ما بقي لنا من وطن وتاريخ وقيم وأخلاق لطالما زهونا بها وفخرنا .