كنت في سلسلة المقالات الأخيرة التي وجهتها إلى قيادات الحراك الجنوبي ، أذكِّر ببعض اللحظات المؤلمة في تاريخنا الجنوبي ، وكان البعض يتحسس من ذكر تلك الأخطاء ، ويتهمني بنكش جراحات الماضي لإثارتها وإحيائها ، وأنهم بعد التسامح والتصالح ، قد أغلقوا تلك الصفحات السوداء من حياتهم ولا عودة لتلك الأساليب في التعامل مع بعضهم ، وأن العهد القادم سيكون عهد الديمقراطية والحرية واحترام الرأي والرأي الآخر ، مهما كان الاختلاف ، وأن دماءهم بينهم حرام ، بحسب الفتوى الفريدة إياها . والحقيقة أنني لا أذكركم بتلك الحقبة عبثاً ولا استفزازاً ولا شماتة ، ولكن لأنني بدأت أشعر بنفس أسبابها حاضرة معنا في كل لحظة ، وهي ثقافة التحريض والتشويه والكراهية التي قادتنا إلى ذلك الشقاق والتنافر، حيث هي ذاتها اليوم ، تتصدر أساليب تعاملكم مع من يخالفكم في الرأي(وإن ادعيتم غير ذلك) ، لذلك أعدت التذكير بتلك الحقبة المؤلمة ، لعلكم تتجنبون السير في الطريق المهلك فحسب . أما اليوم ، فأنا لا أحتاج إلى العودة للماضي وجراحاته ، فقد بدأ ما حذرتكم منه ونبهتكم إليه يظهر جلياً واضحاً لا لبس فيه ، وهاهي نُذُرُه تترى واحدة بعد الأخرى ، وبدا جلياً فشلكم في التخلص من عقلية الماضي وثقافته عند أول اختبار ، وقبل أن تكون لكم دولة ولا سلطان . وما حصل يوم الاقتراع أكبر دليل على ذلك ، فالاختلاف في أمر الانتخابات طبيعي ولا غرابة فيه ، ولكن ما يؤكد أن عقلية الماضي وأفكاره ما زالت في رؤوسكم ، هو ما حاولتم صنعه من تكميم أفواه الناس ومنعهم من ممارسة حقهم كمواطنين جنوبيين لهم كامل الأهلية وليس لكم عليهم وصاية ولا سلطان . حيث وصل الأمر بكم إلى استعمال السلاح ، والتهديد بتصفية كل من يشارك في هذه الانتخابات ، سواءً من شارك في اللجان أو في الاقتراع ، بل وصل الأمر إلى انتهاك حرمة البيوت واقتحامها وإشهار الأسلحة في وجوه أصحابها أمام عائلاتهم ، وقطع الطرقات وفرض العصيان المدني بقوة السلاح ، وافتعال الصدام مع الحراسات الأمنية للجان الانتخابية ، وكانت نتيجة ذلك سقوط سبعة قتلى في عدن وأكثر من ثلاثين جريحاً. فهل هذه هي الديمقراطية التي تعدون المواطن الجنوبي بها ؟ أم أننا سنعود لديمقراطية الاسم دون المسمى التي عشناها في الماضي القريب والبعيد ؟ أليست هذه عقلية الماضي البغيض ؟ عقلية تخوين المخالف واتهامه بما ليس فيه ، انتصاراً للنفس والرأي الواحد ، وعجزاً عن الإبداع والتفكير ، وحرصاً على تشويه المخالف واتهامه بخيانة الوطن والعمالة للأعداء ، وهي الأوتار الحساسة التي تؤثر على عواطف العامة تأثيراً مؤقتاً ، فيصدِّقون هذه التهم ، ثم يتبين لهم بعد مدة أنهم كانوا خاطئين . وكم من الأبطال والشرفاء ظلت الشعوب ولسنين طويلة ، تعتبرهم أعداءً وخطراً داهماً عليها وعلى الأوطان بفعل مثل هذا التضليل ، ثم ما لبثت أن اكتشفت أنهم كانوا صادقين ، وما قال الشهيد الثلايا قولته الشهيرة (لعن الله شعباً أردت له الحياة وأراد لي الموت) إلاّ عندما رأى شعباً مضلَّلاً يكذِّبهُ ويصدِّق جلاده . وما درس الإخوان المسلمين كذلك عنا ببعيد ، فقد ظلمتهم الأمة خلال ثمانين عاماً ، بسبب تضليل الحكام المستبدين ، حتى وصل الحال بالمواطن العربي أن يفضِّل أن يُتهم بالسرقة أو الزنا على أن يقال عنه إخونجي (تسمية أطلقوها عن الإخوان المسلمين) ، واليوم عندما اكتشفت الأمة التضليل الذي مورس عليها ، هاهي ترد الاعتبار للإخوان ، وتضعهم في عليين الدنيا ، يرمقهم أقرانهم من بعيد ، في تونس ومصر والمغرب والكويت وقبلها في تركيا والسودان وقريباً في ليبيا واليمن وسوريا ، وربما في أقطار أخرى . لقد أصبحتم يا قادة( الحراك الجنوبي) اليوم مثل ذلك الراعي الغبي الذي كان يكذب على أهل قريته ويستغيث بهم أكثر من مرة بأن الذئب هجم على غنمه ، وكلما استجابوا لاستغاثته ، وجدوه كاذباً ، وحين هاجمه الذئب حقيقة ، ذهب ينادي أهل القرية بأعلى صوته ويستغيث بهم ، فلم يستجيبوا له . فقد استخدمتم التضليل مع الجماهير من خلال الوعود الكاذبة ، فقبل أكثر من عامين أوهمتموهم بشعار (يا جنوبي صحي النوم7/7 آخر يوم) ، ثم قصة (خليجي عشرين ) والآن (الانتخابات) ، والشعب في الجنوب ينتظر المفاجئة التي تتفتق عنها قرائحكم السياسية ، ولكنه لم يجدها إلاّ كسراب بقيعة ، لذلك وصل الشعب الجنوبي اليوم إلى قناعة أن لا فائدة ترجى منكم ومن قيادتكم ، وخرجوا يهتفون ضدكم(لا قيادة بعد اليوم ) ، بل منعوكم حتى من صعود المنصات وإلقاء الكلمات ، ألا يكفيكم ذلك ؟؟؟. ولإدراككم هذه الحقيقة ، فلم تجازفوا بالاكتفاء بدعوة الناس للمقاطعة السلمية وحسب ، بل قررتم منعهم بالقوة ، بحجة أن إقامة الانتخابات في الجنوب اعتراف بشرعية الاحتلال ، وكأنه لا يربطكم بحكومة صنعاء إلاّ الانتخابات ، فلا تستلمون رواتبكم عبرها ، ولا تحملون بطاقاتها ولا جوازاتها ولا ما خفي !!!! إلخ . ولو سلَّمنا جدلاً بما تطرحونه ، وبأننا في المحافظات الجنوبية نعيش في ظل احتلال ، فمن ذا السياسي العبقري الذي قال لكم بأن المشاركة في الانتخابات في ظل الاحتلال ، اعتراف بشرعيته ، ومع أننا لسنا بوضع الفلسطينيين وليس إخواننا الشماليين بالصهاينة الإسرائيليين ، ولا وجه للمقارنة ، ومع ذلك ، ألا يشارك الفلسطينيون في الانتخابات الإسرائيلية في أراضي ال48 ، بل ويحملون الجنسية الإسرائيلية ؟ أليس أعضاء الكنيست الإسرائيلي من الفلسطينيين ، هم من يتصدون اليوم ومن داخل الكنيست لكل اعتداءات الصهاينة ، ويفضحون كل ممارساتهم ؟ أم أنكم ولفرط جهلكم بما يدور حولكم ، لم تسمعوا ببطولات المفكر العربي عزمي بشارة حين كان عضوا في الكنيست ، ولا بصولات البطلة حنين الزغبي ، وغيرهما ممن كانوا ومن مازالوا أعضاء الكنيست الإسرائيلي العرب . لقد أرحتمونا من عناء التذكير بذلك الماضي الأسود ، حين بدأتم تستعرضون جزءً بسيطاً منه هذه الأيام ، وأنتم لا زلتم مواطنين عاديين ولم تستلموا الحكم والسلطان ، وأشكركم على هذا المشهد الصغير من أفلام رعبكم القديمة ، من حمل السلاح والتهديد والوعيد لكل من يخالفكم ، والذي يثبت صدق نظرتنا الثاقبة ، وصدق ما توقعناه لما سيؤول إليه أمركم ، ولكي يعرف عنكم الجيل الجديد بعض الذي لم يره من قبل ، وقد بدأ يتنبه لذلك وهو صاحب شعار ( لا قيادة بعد اليوم ) ، ولكي يعرف الشعب الجنوبي جميعاً ما ينتظره إن استفردتم بحكمه من جديد ، لأن ذاكرته للأسف ضعيفة أحياناً ، وربما ذلك لطيبته ونبله وكرم أخلاقه