العدو الصهيوني يواصل خروقاته لإتفاق غزة: استمرار الحصار ومنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية    عدن.. هيئة النقل البري تغيّر مسار رحلات باصات النقل الجماعي    الدوري الاسباني: برشلونة يعود من ملعب سلتا فيغو بانتصار كبير ويقلص الفارق مع ريال مدريد    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    انها ليست قيادة سرية شابة وانما "حزب الله" جديد    فوز (ممداني) صفعة ل(ترامب) ول(الكيان الصهيوني)    تضحياتٌ الشهداء أثمرت عزًّا ونصرًا    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    الدولة المخطوفة: 17 يومًا من الغياب القسري لعارف قطران ونجله وصمتي الحاضر ينتظر رشدهم    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    الأهلي يتوج بلقب بطل كأس السوبر المصري على حساب الزمالك    نجاة برلماني من محاولة اغتيال في تعز    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    مانشستر سيتي يسحق ليفربول بثلاثية نظيفة في قمة الدوري الإنجليزي    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    وزير الصحة: نعمل على تحديث أدوات الوزارة المالية والإدارية ورفع كفاءة الإنفاق    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    تدشين قسم الأرشيف الإلكتروني بمصلحة الأحوال المدنية بعدن في نقلة نوعية نحو التحول الرقمي    شبوة تحتضن إجتماعات الاتحاد اليمني العام للكرة الطائرة لأول مرة    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    رئيس بنك نيويورك "يحذر": تفاقم فقر الأمريكيين قد يقود البلاد إلى ركود اقتصادي    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    اليمن تشارك في اجتماع الجمعية العمومية الرابع عشر للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي بالرياض 2025م.    الكثيري يؤكد دعم المجلس الانتقالي لمنتدى الطالب المهري بحضرموت    بن ماضي يكرر جريمة الأشطل بهدم الجسر الصيني أول جسور حضرموت (صور)    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    خفر السواحل تعلن ضبط سفينتين قادمتين من جيبوتي وتصادر معدات اتصالات حديثه    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين يخالف التوقعات في أكتوبر    علموا أولادكم أن مصر لم تكن يوم ارض عابرة، بل كانت ساحة يمر منها تاريخ الوحي.    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    محافظ المهرة.. تمرد وفساد يهددان جدية الحكومة ويستوجب الإقالة والمحاسبة    هل أنت إخواني؟.. اختبر نفسك    سرقة أكثر من 25 مليون دولار من صندوق الترويج السياحي منذ 2017    عين الوطن الساهرة (1)    أوقفوا الاستنزاف للمال العام على حساب شعب يجوع    أبناء الحجرية في عدن.. إحسان الجنوب الذي قوبل بالغدر والنكران    جرحى عسكريون ينصبون خيمة اعتصام في مأرب    قراءة تحليلية لنص "رجل يقبل حبيبته" ل"أحمد سيف حاشد"    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الزيدية إلى السلفية..من هو مقبل الوادعي مؤسس مركز دماج ؟؟
نشر في عدن أون لاين يوم 05 - 11 - 2013

عام 2006 صدر كتاب «الإسلام السياسي في زمن القاعدة: إعادة أسلمة - تحديث – راديكالية» للباحث الفرنسي فرانسوا بورجا، الباحث المتخصص في شؤون «الإرهاب» وحركات الإسلام السياسي.
عاش بورجا في اليمن ست سنوات سبقت صدور الكتاب؛ وهي السنوات التي يقول إنها أغنته وساعدته على استكمال مقاربته الحديثة بشأن «المعجم الإسلامي». وهنا، في اليمن وعلى هضابها، يقول بورغا إن الكتاب بلغ «مرحلة النضج».
وقبل صدوره بعشرين سنة، ألف بورغا – ضمن اهتمامه بظاهرة الإسلاميين – كتابه المعنون ب«الإسلام السياسي: صوت الجنوب»، الذي جاء نتاج بحث طويل في الوسط المغربي مثلت له «أولى معالم (طريقة استعمال) ثقافية وسياسية لفزاعة 'إسلامي'».
وبعد عشر سنوات من توسيعه لقاعدة التحليل، بهذا الشأن، صدر له كتاب «الإسلام السياسي وجهاً لوجه»، والذي يقول إنه جاء ثمرة إقامته في المشرق لمدة خمس سنوات.
بعدها، أقام الباحث الفرنسي ست سنوات في اليمن، ليتمكّن من استكمال مقاربته الأخيرة حتى الآن. يرجع بورغا، في مقدمة كتابه الأخير، الفضل لتلك السنوات الست في اغناء مقاربته تلك والتي ضمنها خلاصة كتابه "الإسلام السياسي في زمن القاعدة".
بعد المقدّمة مباشرة، وتحت عنوان رئيسي «الأصول الهوياتية للعودة إلى المعجم الإسلام»، يفرد الكاتب في القسم 6 من هذا الفصل، موضوعاً بعنوان ب«خفايا مسار إيديولوجي: سلفي يمني بين الراديكالية 'الدينية' والإستراتيجية الاجتماعية».
وفيه يتفحص الباحث حالة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي (1930-2000)، الذي يصفه بأنه «المنظر الرئيسي لأكثر اتجاهات التيار السلفي اليمني (والعالمي) حرفية».
قدّم الباحث الفرنسي، المتخصص بشؤون حركات الإسلام السياسي، تحليلاً عميقاً لحالة الوادعي وتحولاته من المذهب الزيدي (الشيعي) إلى اعتناق اتجاه «سلفي» للسنة السعودية، التي كان في البداية عدواً لها.
ولعلّ ما يلفت الانتباه أكثر ذلك الاستعراض الحرفي والمهني العالي الذي قدمه الباحث الذي ظهر أكثر فهماً واستيعاباً للحالة الإسلامية في اليمن والعالم، لدور المتغيرات الاجتماعية والسياسية العادية التي أسهمت في فهم هذا المسار التحولي.
وتزامناً مع حالة التوتر الراهنة التي تمر بها منطقة دماج في صعدة بين التيارين السلفي (ممثلاً بتيار مقبل الوادعي)، والشيعي (ممثلاً بالحوثي)، ينشر «المصدر أونلاين» هذا الجزء من الكتاب، أملاً بتقديم مادة ثرية للقُراء، ربّما تُساعد على ما وصفه صاحب الكتاب ب«استكشاف التوترات بين الخصوصيات الوطنية وظواهر تعدد القوميات والتوترات التي تسمح بفهم أكبر لتنوع الساحة الإسلامية الكبير، وفي الوقت نفسه للقوى التي تؤثر في ديناميكيتها..».
خفايا مسارٍ إيديولوجي: سلفي يمني بين الراديكالية «الدينية» والإستراتيجية الاجتماعية
لنتفحص مثلاً حالة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي (1930-2000)، الذي اتّبع مساراً "إسلامياً" طويلاً قبل أن يصبح المنظر الرئيس لأكثر اتجاهات التيار السلفي اليمني (والعالمي) حرفية. خطابه يقدّم حوافز متنوعة على أنها ذات طابع مذهبي، دعته إلى التنصل شيئاً فشيئاً من انتمائه الشيعي الزيديّ البدائي، ثم إلى اعتناق اتجاه "سلفي" للسنة السعودية، مؤكداً في الوقت نفسه معارضته لنظام السعودية، وإلى التحالف فترةً مع الإخوان المسلمين الموجودين في اليمن ثم محاربتهم، وإلى قبول التعاون مع النظام اليمنيّ للرئيس علي عبد الله صالح قبل أن يتصالح، قبل وفاته بقليل، مع النظام السعودي.
الإسلام السياسي في زمن القاعدة
خلف الواجهة المذهبية لسلفية مقبل، من المهم أن نظهر أهمية دور المتغيِّرات الاجتماعية والسياسية العادية التي تُسهم في فهم مثل هذا المسار، ومن دون أن ننكر الجزء العائد لاستقلال النشطاء الإسلاميين يجب أخذ هذا المزيج المعقّد من الحوافز الشديدة الدنيوية في الحسبان بشكلٍ منهجيٍ لنفسر مساراتهم المتمايزة، كما كُنّا لنفعل من أجل أيِ من نظرائهم ضمن سياقات سياسية أخرى، مسار مقبل إذنً ليس فقط مسارا "إسلاميا سلفياً"؛ مقبل، أيضاً مواطن يحمل التبعية اليمنية أولاً، ذو انتماء طائفي "زيدي" ثانياً، وأخيراً هو من طبقة اجتماعية (رجل قبيلة) دنيا نسبياً، وقد سعى، من دون نجاح يُذكر، إلى تسلق درجات الطبقات الاجتماعية والمهنية لبيئته الوطنية، ثم للمملكة السعودية المجاورة بعد ذل، وقد نجح أخيراً إثر عودته من السعودية في الارتباط بالسوق السياسي – الديني لموطنه الأصلي، موظفاً المكتسبات الرمزية التي حصل عليها في الخارج.
وقد وُلد عام 1930، في مكانٍ قريبٍ من الحدود مع المملكة السعودية، في شمال يمني يحكمه الإمام الزيدي يحيى حميد الدين، وقد أدرك سريعاً وزن "انتماءاته الأولية" القومية، والطائفية، والاجتماعية، كان اليمن وقتها أحد أشدّ بلاد العالم فقراً، ولديه نظام سياسي ديني مفرط التراتبية (الإمامة الزيدية، التي أصبحت ملكية وراثية عام 1926)، حيث كلّ فرد محصورٌ بدقة في طبقته الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وفي هذا المستوى المادي جداً بعض ما يفسِّر حتماً مسيرته "الأيديولوجية" وابتعاده عن انتماءاته الأولى، في التركيب الاجتماعي للمجتمع الزيدي، محكومٌ على مقبل بالبقاء تابعاً تبعية مزدوجة: فهو لا ينتمي للأرستقراطية الدينية لسلالة النبي (السادة، الوحيدين الذين يمكنهم أن يطمحوا إلى منصب الإمامة الرفيع)، ولا للأرستقراطية الحقوقية "للقضاة"، مستشاريهم الأساسيين، ولا حتى لأرستقراطية "السيف" التي يشكِّلها، حتى يومنا هذا، رؤساء القبائل الكبيرة، قوّة الإمامة المسلّحة الرئيسة لفترةٍ طويلةٍ.
لم يكن التزامه الأول في صباه سياسياً ولا إيديولوجياً، لكنه كان مهنياً جداً. وكالآلاف من مواطنيه، ذهب إلى العمل في المملكة السعودية للخروج من الضائقة الاقتصادية، وفي مكة كسب قوّته من العمل في البناء، متابعاً تعليماً دينياً في الوقت نفسه، ووضعته زيديته في وضعٍ خطرٍ مع قوانين البلاد التي استقبلته في مجتمع حيث الأقلية الشيعية غير مقبولة، إذنّ كان ثمن الاندماج الناجح "بالعامل" الديني، والاقتصادي وكذلك الاجتماعي السعودي، يمر عبر التخلِّي عن انتمائه الطائفي الأصلي، وهذا ما قام به.
وفور عودته الأولى للبلاد في أواسط السبعينيات، أظهر على كل حالٍ أنه اعتنق المعتقدات الوهّابية السائدة في المملكة السعودية: تخلّص من "تقديس الوسطاء" بين الخالق والإنسان، سواءً كان هؤلاء أولياء أو زعماء روحيين لأخويّات صوفية، وهو ما تنكره التقاليد معتبرةً إياه "إشراكاً، أي: رفعاً للمخلوقات إلى نفس مرتبة الخالق، وفي قريته القريبة من صعدة استنكر وجود قبور في المساجد، واستخدام التمائم أو التعاويذ، وباعتبار أنه أعلن انتقاداته علناً بشكلٍ واسع وحاول المزاحمة، مارس وجهاء الزيدية ضغوطاً على المقرّبين منه "كي يجروا له غسيل دماغ"، حسب تعبيره، ولإعادته إلى الصواب، أرغموه على اتباع دروس جامع الإمام الهادي، مهد مذهبهم.
وقاوم ثلاث سنوات، وقبل بألاّ يدرّس سوى النحو، حينذاك لم تكن العزلة والنفي اللذان بدأ يعانيهما إيديولوجيتين فقط، كان لهما بُعد اجتماعي صريح وتعبير عن احتقار "السادة"، سليلي الرسول، له وحالما حاول الامتناع عن ذلك بفعاليته الدينية وبالتالي السياسية فرضياً، ذكره أعضاء الارستقراطية الدينية بصراحة بمكانه في السلم الاجتماعي: أنه ليس سوى "قبائلي" وضيع ولن يحلم بالخروج من طبقته، وتهكموا قائلين: مهما دعكنا الممسحة، لن تصبح أبداً بيضاء، كان هذا التنبيه الدّيني والاجتماعي مهيناً بشكلٍ خاصٍ، لأنه صدر عن هؤلاء الذين يحمون شحوب بشرتهم بمظلاتٍ واسعة كيلا يصبحوا كالفلاحين، لقد دوّن مقبل في سيرة حياته: سأذكر ذلك طيلة حياتي.
في نهاية السبعينيات أنجز الزيدي مقبل مساره نحو السلفية، وسبب له كونه آتياً من بلد "شيعي" مرةً أخرى شكوكاً في شرعيته في المملكة السعودية التي عاد إليها طلباً للرزق، وبينما كان يطمح لتغيير وضعه والوصول إلى مقام تدريس القانون الإسلامي، متسلحاً بشهاداته الجديدة، شككت لجنة تحقيق من جديد بسلامة معتقده، لقد تم استجوابه بشكل خاصٍ عن طريقة رفع الأذان للصلاة، وعن جواز الصلاة مع انتعال الحذاء.
وأكّد قائلاً: أنا سنّيٌ وأفكر مثلكم؛ ومن حينها حارب الشكوك التي تعوق مهنته بنوعٍ من المزايدة المعادية للزيدية.
وسُجن لفترةٍ وجيزة بتهمة الارتباط بجماعة "جهيمان"، التي احتلت بعد ذلك بقليل (20 تشرين الثاني 1979) مسجد مكة الكبير (وهو عملٌ أدى قمعه، بالاستعانة المباشرة بمجموعات التدخل في الدرك الوطني (GIGN/ d'lntervention de la gendarmerie Nationale groupe) الفرنسية، إلى مئات القتلى)، عندها لجأ مقبل نهائياً إلى موطنه الأصلي اليمن، ومن عام 1970 انتصرت الجمهورية هناك على الإمامة، وقد شجّعه في خياراته الدينية مع ذلك "المادية" و"الشيوعية" النسبية للنظام الذي أتى به إلى الحكم عام 1962 التدخل العسكري لجمال عبد الناصر، ولدى عودته من السعودية، استقبله الإخوان المسلمون ودعموه مادياً، حينها كان الإخوان، كما في الماضي، حلفاء النظام المباشرين ويستند رئيس الدولة عليهم طبعاً، ما دام على الجمهورية، التي أكّدت أنها ضد ثيوقراطية زيدية ما زالت راسخة بقوةٍ في الثقافة الشعبية، أن تسدّ ثغرةً في الشرعية الدينية.
في البدء كان للسلفي مقبل موقفٌ مزودجٌ من تيار الإخوان المسلمين، وقد قال إن بعض أساتذته السعوديين "حذروه من أن يسلم لهم مصيره".
لكن ذلك لم يمنعه، عند الحاجة، من التعاون مع الذين كانوا حينذاك حلفاء السلطة الأقوياء، وقبل بالتالي إدارة أحد معاهدهم، وبعد سنة، عام 1982م، في سياق سياسي مختلف قام بالمقابل بتحول مذهلٍ في مؤلفه (المؤسس: المخرج من الفتنة، الذي يحدد فيه الخطوط العريضة لرؤيته "السلفية" للإسلام، قطع علاقته بفظاظة مع هؤلاء الذين سوف يدعوهم متهمكاً (الإخوان المفلسين). وأصبح حلفاؤه بالأمس، مثل أي "كافرٍ" أو يكادون، كبش محرقته المفضلين.
كان الباعث على تغيره طبعاً حججاً ذات طبيعة "دينية": أسقطت كل "التجديدات" للقراءة الكلاسيكية للقرآن والسنة، المنسوبة للإخوان وشبّهت بتجديدات مماثلة مخالفة لصحة المعتقد التقليدية (بدعة). فالإخوان المسلمون، بدخولهم لعبة الانتخابات، متهمون بتغذية انقسام الجماعة إلى أحزاب (الحزبية)، وبالتالي، تجزئتها بالنهاية (الفتنة). لكن هناك دوافع عميقة جداً، قوميةً ومهنيةٌ – اجتماعيةً وتحزيبيةً تكمل إيضاح هذه الواجهة المذهبية.
وتصادف بالفعل أن أستاذية العلماء المدرِّسين المصريين، وهم غالباً مجرد مهاجرين "اقتصاديين"، يتم التدرّب عليها في اليمن ما يضرّ بالنخبة الدينية المحلية، وبالتالي فإن الإخوان "المستوردين" هم هدفٌ لانتقاد لا يخلو من غيرة حرفية وقومية: هؤلاء الذين أفسدوا الإخوان المسلمين في اليمن هم المصريون الذين أتوا للعمل في "المعاهد العلمية" ومكتب التوجيه والهداية ومعظمهم انتهازيون، يتظاهرون بالانضمام بحماسٍ للإخوان المسلمين ليكسبوا ثقة مدراء المعاهد ويحافظوا على عملهم، لكن معظم هؤلاء المصريين "يغيرون لونهم"، إنهم مستعدون ليصبحوا سنّيين بين السنة، وشيعيين بين الشيعة، وحتى صوفيين بين الصوفية، يرفض اليمنيون حتماً أن يكونوا أذيالاً للمصريين والسودانيين الذين يرسّخون لد يهم المبادئ التي سبق أن رفضها الشباب المصريون.
وفي شريط معنون ببلاغة "الحمير ذوو العمائم"، يبسط مقبل حدة لسانه لتطال علماء جامعة الأزهر القاهرية الكبيرة، ضغينته إذنً واضحة تجاه هؤلاء المميزين، الذين كانت الحكومة اليمنية تأتي بهم بمشقة في محاولة لتهدئة الخواطر، في سياق توحيد البلاد الذي حصل في أيار 1990، كما نرى بوضوحٍ تشابه "مرونة التأقلم" مع المحيط التي يستنكروها مقبل لدى المهاجرين المصريين في اليمن، و"مرونة التأقلم" التي أظهرها بنفسه كمهاجرٍ في السعودية، أو كما سوف نرى، "كرجل سياسة" في اليمن.
هذه المنافسة الداخلية للتيار الإسلامي ليست في الواقع التفسير الوحيد للراديكالية الفظّة لخطاب "السلفيين اليمنيين" ضد "إخوانهم" المسلمين. إنّ عودة تاريخية وجيزة لهي أمرٌ ضروريٌ لنفهم كيف حصلت القطيعة، بمواجهة وصراع أكبر بكثير ممّا في المملكة السعودية المجاورة. في المحيط السعودي يبدو أن الإخوان "المستوردين" أيضاً من مصر (التي هربوا منها خشية قمع عبد الناصر) والناقلين الأساسين لنوعٍ من التحديد الدِّيني والسياسي امتنعوا عن الدخول في توترٍ مفتوحٍ مع تبعية سلفية شديدة الانغراس في النسيج الاجتماعي والنّخب الحاكمة معاً، بالمقابل في اليمن ساهمت اعتبارات السياسة المحلية في تأكيد "إيديولوجي" للسلفية. والإخوان المسلمون المحليون، الذين ورثوا، كما رأينا، تاريخاً طويلاً من التعاون مع النظام ساهموا في عام 1982 مرةً أخرى في الدِّفاع عنه، مناضلين ضد مقاتلي الجبهة الديمقراطية التي زرعها الاشتراكيون العدنيون في المنطقة الحدودية الجنوبية، ورفضوا في هذه الفترة الانضمام للنظام من دون أن يؤكدوا معارضتهم الممكنة له، وأعلنوا ذلك، وكان الرئيس علي عبد الله صالح قد شكل حزباً وحيداً هو "مؤتمر الشعب العام"، الذي كان يأمل أن يرى فيه انصهاراً لكل التشكيلات السياسية القائمة، وقد أمل خصوصاً أن ينتسب إليه الإخوان المكوّن الأساس للتيار الإسلامي، الذي يعلم حاجته إلى دعمه الأيديولوجي، وصلاته القبلية كذلك، واقتنع عبد الملك منصور، أحد أكبر زعماء الإخوان، بالانتقال إلى معسكر الحزب الجديد، لكن معظم الفرق رفضت أن تتبعه، وأعطى قائد الحركة أحمد ياسين الأمر بمقاطعة منصور.
وهكذا دخل الإخوان المسلمون السياسة بواسطة التعددية التي بدأت معالمها في الظهور. ولكي يقسم النظام المعسكر الإسلامي بذل جهدا مع المحافظة على علاقات طيِبة مع الإخوان، الذين سوف حتى يشركهم في الحكومة عندما يحتاج لذلك عام (1993) ليتصدى للاشتراكيين، في استمالة خصومهم المحتملين. وضمن هذا السياق، أبرم مقبل اتفاقاً مع النظام، بادئاً معه تعاوناً طويلاً متعدد الأشكال، وبصورة شديدة المغزى، في حين انتقد الإخوان بشدّة في كتابه البرامجي "المخرج من الفتنة"، هادن منصور الذي أصبح عضواً في حزب الرئيس، وبالتالي فإن التيار السلفي الرئيس أصبح بعد الآن ليس فقط مقبولاً، وإنما مدعوماً من السلطة، وصمد هذا التعاون بقوة أمام وحدة عام "1990" والانفتاح الانتخابي التعددي الذي ترسّخه.
وقاتل السلفيون الاشتراكيين مع بقية المعسكر الإسلامي إلى جانب الجيوش الحكومية إبان الحرب الأهلية عام 1994 (بين اليمن الشمالي سابقاً والجنوبي سابقاً "الاشتراكي"). وبعد انتصار الشمال، استمروا في مساعدة النظام على محاربة تأثير حزب اشتراكي ضعف كثيراً، لكنهم أصبحوا السلاح الانتخابي المفضّل للنظام ضد الإخوان (الذين طردهم النظام من الحكومة بعد انتصاره على الاشتراكيين)، وخلافاً لهؤلاء حظر أتباع مقبل المشاركة في المشاورات الانتخابية؛ ساهموا إذنً في تقسيم الناخبين الإسلاميين، ليس إلى معسكرين (معارضةٌ وسلطةٌ)، ولكن إلى ثلاثةٍ؛ لأن معسكر المستنكفين يقلل بالمقدار ذاته من تمكّن المعارضة الانتخابية من حزب الرئيس.
تُوفي مقبل في تموز عام 2000، وكان قبلها قد تصالح مع السعوديين، الذين قدموا له إقامةٌ للعلاج في الولايات المتحدة الأميركية. إذنً، رغم الحرفية المحافظة لتعاليمه، كان "السلفي" حليفاً موضوعياً أكثر منه خصماً لأنظمة شبه جزيرة العرب، مثل هذا التعاون يفسر لوحةٌ كاملةً من مسيرة إسلامي "سلفي". يتضح أن راديكالية السلفيين المذهبية ضد الإخوان المعارضين لنظام علي عبد الله صالح هي، جزئياً على الأقل، نتائج تهاون السلطة المتسامحة، وباعتبار أن السلفيين هم بشكلٍ واضح أقل انخراطاً من الإخوان في ديناميكية التحديث السياسي، لا يخلو مثل هذا الدعم، الذي له ما يماثله في العديد من بلدان المنطقة، من الواقعية والاستخفاف.
في اليمن كما في أي مكانٍ آخر، ثمة خلف شجرة الإسلام والأيديولوجيا، كما نرى، غابة الاجتماعي والسياسي، هي أكثر كثافة أحياناً مما يمكن أن نظنه.
المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.