د. عادل باحميد لعلها من سُخريات الأقدار أن يحتفلَ شعبٌ بذكرى استقلاله السادسة والأربعين وهو لا يزال يرزحُ تحت نيرِ الاحتلال وسطوتِهِ وجبروتِه .. فأيّ معنى لهكذا احتفال ؟! وأيُّ معنى لكل عبارات التمجيد والزهوّ والافتخار الوطني والخطابات الزائفة الحنّانة الطنّانة التي ستملؤ سماء هذا اليوم تزفّها إلينا وإلى هذا الشعب الطيّب المسكين منابرُ المنصّات وأثير القنوات وابواق الإذاعات ؟!! لا معنى على الإطلاق لاستقلالٍ أعقبه احتلال ولربما احتلالات !! لا يستحقّ الاحتفال ذلك الاستقلال الذي لم يفرد الوطنُ بعده جناحيه ليحلّق في عوالم الحريةِ والنهضة والنمو والازدهار. ستةٌ وأربعون عاماً من ذكرى (استقلالٍ) احتفلنا بها (46) مرّة !، وفي كلّ مرةٍ يقود الاحتفالات محتلّنا الجديد وإن تبدّلت العيون فلم تعد زرقاء ولا الشعور أصبحت شقراء، فمحتلنا الجديد منّا ومن ابناء جلدتنا، يأكل مما نأكل ويشربُ مما نشرب، غير أنه يأكلُ أيضاً ويبتلع عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وحرياتنا وأرزاقنا وخياراتنا وقراراتنا، فلا صوت غيره ولا رأي غيره ولا شيء يعلو فوقه !! لذا لما يا معاشر المحتفلين بهذا العيد لمّا لا نوصّف الحدث بدقةٍ أكثر، فالذكرى ليست رحيل (الاحتلال) وكفى!، بل هي ذكرى رحيل المحتل الأجنبي الخارجي بكل دقّةٍ وتحديد، فأرضنا يا سادة ومثلها عقولُنا وحرياتنا وثرواتنا لا تزال مذ رحيل المحتل صاحب العيون الزرقاء ترزحُ تحت نير احتلال (حمران العيون)، وأن تبدلوا وتقلّبوا وتشكّلوا، لا نزال حتى اليوم نراوحُ في مكاننا من سلطةِ احتلالٍ إلى أخرى والأدهى من ذلك أنّ من المحتلين اليوم من مقامري السياسةِ وتجّارها من يحاول أن يستعجل احتلال مستقبلنا ومستقبل أولادنا غداً من اليوم، ففي ذكرى الاستقلال عن الأجنبي هناك من يرمي بقيود احتلاله ليقبض على مستقبلنا ويرميه في زنازينه من اليوم، فلا حريّةَ غداً .. من سُخريّات القدر، أن يدّعي المحتلون لنا عقوداً أنهم محررونا عبر مشاريعهم التحرريّة الاستقلاليّة، وطالما أننا في سجنٍ فما تفرقُ لدينا في أي الزنازين وُضعنا .. ولا يفرقُ لدينا أن يكون السجّانُ أجنبياً غريباً أو من أقاربنا، بل لعله (وظلمُ ذوي القربى اشدّ مضاضةً ...). يا سادتي .. الاستقلالُ ليس التحرّرُ من احتلال الأرضِ والديارِ فحسب، بل هو التحرّرُ من احتلال العقول وتكبيل الآراءِ والأفكار والإرادة، هو التحرر من قيود مصّاصي دماء الشعوبِ وثرواتها، هو التحرّر من فساد العابثين الناهبين، هو التحرّر من احتلال إرادة الشعوب ومنعها من التحليق لتنطلق مثل غيرِها من شعوب الكون في آفاق التقدّم والعيش الكريم، هو التحرّر من ادّعاء التمثيل لها والحديثِ المُطلقِ باسمها وتقرير مصيرها نيابةً عنها، لذا كم تراودني الأماني أحياناً لو أن الانجليزَ لم يرحلوا !! أو أن سلاطيننا الكرامَ لا يزالوا على عروشهم فلعلهم الوحيدين الذين لم يمارسوا علينا سطوة الاحتلال في تاريخنا الحديث، لكن هيهات لمثل هذه الأمنياتِ المستحيلة أن تجد طريقها إلينا. في ذكرى (الاستقلال) .. هي دعوةٌ للتحرر والاستقلال .. فما عادَ لنا من أملٍ غير أن ننشد الاستقلالَ فينا، في ذواتنا، أن نمتلك حقّ تقرير مصائرنا وقراراتنا وخياراتنا وإرادتنا ونحررها ممن يريدون لها الانقياد يميناً ويسارا .. عندها سنمتلك عيد (استقلالٍ) يحقّ لنا ويستحقّ أن نحتفل به ونفخر .. وكل عام والوطن وانتم بألف خير ..