عدن أونلاين/ كتب:السيد أبو داود ما فعله الجنود الأمريكيون مؤخرًا في قاعدة "باغرام" بأفغانستان، من إحراق نسخ المصحف الشريف، أمر يستحق أن نتوقف عنده بالتأمل والتحليل، وربط هذا الحدث بأحداث مماثلة في الماضي والحاضر، والتعرف على شيء من النفسية الغربية تجاه القرآن. ولم يكن مفاجئًا أن يخرج الشعب الأفغاني في مظاهرات كبيرة، لأيام طويلة ومستمرة، وأن ينتج عن هذه المظاهرات أكثر من ثمانية قتلى سقطوا في اشتباكات بين قوات الأمن الأفغانية والمتظاهرين الغاضبين على إهانتهم بحرق "المصحف"، الذي هو أغلى عليهم من أنفسهم وأهليهم، بل ومن الدنيا وما عليها. نستطيع أن نتحدث عن أسباب متعددة للفعلة الشنعاء للجنود الأمريكيين، لكن المؤكد أن السبب الرئيس هو أن هذا الفعل الخسيس ناتج عن غيظهم الشديد والمرارة والغصة التي يجدونها في حلوقهم بعدما فشلوا فشلًا ذريعًا في أن يخضعوا هذا الشعب الفقير، وفي أن يفرضوا كلمتهم وسيطرتهم عليه. فرغم مرور أكثر من عشر سنوات كاملة على غزو أفغانستان، من قوات أمريكية وأوروبية مختارة من أكفأ الوحدات العسكرية في العالم، والمجهزة بأحدث ما وصل إليه العلم الحديث من قوة تدميرية، ورغم كم التخريب والتدمير الذي أحدثه هؤلاء في أفغانستان، حتى حولوها إلى مجتمعات القرون الوسطى، ورغم المجازر التي ارتكبوها ضد المدنيين الأبرياء العزل، إلا أنهم عجزوا عن أن يحققوا ما خططوا له. استبد اليأس والغيظ بهؤلاء الجنود المدججين بالسلاح لأنهم لم يستطيعوا هزيمة أناس بسطاء، يواجهون خصومهم بحروب العصابات. كان الأمريكان ومعهم قوات حلف الأطلنطي لا يوقعون الجرح والقتل إلا في المدنيين العزل الأبرياء، أما المقاتلون الأفغان فكانوا يجيدون قتل العناصر الغربية، عسكرية ومدنية، لأن الجميع يهدف إلى خدمة المجهود العسكري، وكان مشهد النعوش التي تصل المدن الأمريكية والأوروبية حاملة الجنود والضباط، مشهدًا مكررًا. ومع إعلان الإدارة الأمريكية عن خطة إكمال سحب قواتها من أفغانستان بحلول نهاية عام 2014م، مع بقاء مستشارين عسكريين أجانب، وأن القوات الأمريكية ستمد أفغانستان بالدعم الجوى والمدفعي والمعونات الطبية حتى بعد عام 2014م، حيث إن الجيش الأفغاني لن تتوفر له هذه الخدمات قبل حلول عام 2016م على الأقل، كل ذلك جعل الشعب الأمريكي كله وجعل الضباط والجنود الأمريكيين متيقنين من أن الانسحاب يعني الخروج بأقل الخسائر وأن الاستمرار في أفغانستان يعني تضخم الهزيمة واستحكام الفضيحة. ولأن الهزيمة لا تخص الأمريكيين فقط، وإنما تعم قوات حلف الأطلنطي المشاركة في العمليات العسكرية، فقد أطلقت بريطانيا أول مؤشرات البدء في سحب قواتها هي الأخرى من أفغانستان بتوقيع اتفاق دفاعي جديد يضمن سلامة مرور ما قيمته مليارات الجنيهات الإسترلينية من المعدات العسكرية الحيوية. بعد أن وقع وزير الدفاع البريطاني فيليب هاموند اتفاقية جديدة للتعاون الدفاعي مع كازاخستان تأمل الحكومة البريطانية أن تمكنها من شحن ما قيمته 4 مليارات جنيه إسترليني من المعدات العسكرية، بما في ذلك الدبابات وناقلات الجنود المدرعة، من شمال أفغانستان عبر أراضيها. فالواضح والمؤكد أن بريطانيا وحلفاءها في حلف شمال الأطلنطي يسعون جاهدين لإيجاد ممرات بديلة بعد قرار باكستان بإغلاق طرق الإمدادات الحيوية من كراتشي إلى أفغانستان، ردًا على مقتل 24 جنديًا من قواتها عن طريق الخطأ بغارة أمريكية في نوفمبر الماضي. فهناك 3000 عربة مدرعة و 11 ألف حاوية من المعدات العسكرية البريطانية تصل قيمتها إلى 4 مليارات جنيه إسترليني في أفغانستان حسب تقديرات وزارة الدفاع البريطانية، سيتم إعادتها إلى المملكة المتحدة عبر كازاخستان. وتمثل عملية نقل هذه المعدات تحديًا لوجستيًا هائلًا، كما أن الضغط على خطوط الاتصال القائمة سيكون ضخمًا، ولهذا السبب قرر القوم فتح خط جديد للاتصالات عبر كازاخستان. وهكذا كان الشعور بألم الفشل سببًا رئيسيًا فيما أقدم عليه الجنود الأمريكان من حرق لنسخ المصحف الشريف في قاعدة "باغرام" بأفغانستان. والسبب الثاني أن الغربيين، بوجه عام، يدركون مدى حساسية هذه الجريمة عند المسلمين، ويدركون مدى حب المسلمين لمقدساتهم، ويدركون بوجه خاص أن الباكستانيين والأفغان شديدو الحساسية لهذا الأمر، ولدى الغرب سجل كبير يحتوي على العشرات من هذه المواقف التي كان رد الفعل عليها كبيرًا. أما السبب الثالث فهو سبب مركب، وربما يكون سببًا معقدًا، فالغربيون لا يبالون بالمقدسات ولا بكتابهم المقدس، فهم لا يهتمون بالذهاب إلى الكنائس، بل حاصروا كنيستهم وطوروا علمانيتهم لكي تلتف على الكنيسة وتفقدها دورها الذي مكنها من ارتكاب المآسي والجرائم في القرون الوسطى. كما أن الباحثين والعلماء الغربيين في علم التأويل حينما يتحدثون عن الكتاب المقدس يتحدثون عنه وكأنه كتاب أدبي ليس له قداسة. وهذه الأمور يدركها الجميع، بمن فيهم الجنود الأمريكيون، ولعل هذا أيضًا يثير غيظهم من المسلمين الذين يحبون "القرآن" ويفدونه بالغالي والنفيس. السبب الرابع أنه إذا كان المسلمون، طوال تاريخهم، يحافظون على مقدسات غيرهم ولا يجرحونها، فإن اليهود والصليبيين متخصصون وعاشقون لتجريح الآخرين ولإهانتهم وللاعتداء على مقدساتهم. فإذا كان اليهود الصهاينة يحرقون المسجد الأقصى ويقومون بتدنيسه بين الحين والآخر ويرتكبون المجازر فيه، فقد سبقهم الصليبيون حينما دخلوا القدس في بداية حملاتهم المشئومة. فرغم أنهم تمكنوا من هزيمة المسلمين والوصول إلى القدس، فالمفترض ألا يكون المنتصر همجيًا ومتعطشًا للدماء بهذه الطريقة، ولكن الذي حدث هو أن هؤلاء الصليبيين قتلوا مئات الآلاف من المسلمين، لدرجة أن أصبحت خيولهم تغوص في برك من الدماء. هؤلاء هم اليهود والصليبيون، الذين تكوّنت نفوسهم، وتكوّن ضميرهم الديني على الشذوذ والرغبة في التشفي والإهانة. وهنا تتضح قيمة وعظمة الإسلام المتمثلة بوصايا قادة دولة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لجند الإسلام الفاتحين: (لا تخونوا.. لا تغلّوا.. لا تمثلوا.. لا تقتلوا طفلًا ولا شيخًا ولا امرأة.. لا تغرقوا نخلًا ولا تحرقوه.. لا تقطعوا شجرة.. لا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له). إن القوم يترنحون حضاريًا أمام الإسلام وأخلاقه، ورغم حديثهم الممجوج عن حقوق الإنسان، إلا أنهم حينما دخلوا أفغانستان، استباحوها تمامًا، فأغاروا على الأفراح والمآتم، ودمروا البيوت والمنشآت الحيوية والمرافق ومحطات الكهرباء والجسور، واستباحوا الأرض والشعب والثروات، وأخذوا يذبحون الأبناء ويقتلون الشيوخ والأطفال ويستحيون النساء، ولم يبقوا زرعًا ولا ضرعًا إلا وداسته دباباتهم وآلياتهم؛ فقطعوا الأشجار، وأصبحت المساحات الخضراء جرداء لا حياة فيها، ولم تسلم من همجيتهم حتى المساجد والكنائس؛ فهدموها على رءوس المصلين، ناهيك عن السرقات التي يقومون بها بحجة تفتيش المنازل بحثًا عن المطلوبين أو التفتيش عن الأسلحة المزعومة. الغل الأمريكي والغربي يتزايد لأنه ثبت أن تأثر الجنود الغربيين بأخلاق المسلمين الفقراء البسطاء العزل كان أكبر من تأثير هؤلاء الغربيين في البيئة الإسلامية المليئة بالأخلاق والحضارة والاعتزاز بالدين. وفي مشهد لن ينساه الغزاة، أنهم حينما ذهبوا حاملين الطحين والمساعدات لبسطاء الناس كي ينفضوا من حول "طالبان"، إذا بسيدة مسنة تستعين في سيرها ب"العكاز"، ترفع عكازها وتجري خلفهم وهم يجرون أمامها. ولن ينسى هؤلاء الجنود والضباط المدججون بالسلاح مناظر البسطاء من الأفغان وهم يبيعون حياتهم فداءً لدينهم وعرضهم، فالحياة عندهم بسيطة وليست معقدة، خبزهم بسيط لكنهم يتناولونه مع حفاظهم على كرامتهم واستقلالهم وحبهم لدينهم ومقدساتهم. وكان رائعًا أن يذّكر "الأزهر الشريف" هؤلاء الطغاة بأن أفعال أسلافهم الفرنسيين، حينما احتلوا مصر ودخلوا القاهرة والجامع الأزهر، وما قاموا به من جرائم في دخول الأزهر بخيولهم وتمزيقهم المصحف الشريف وإهانته، بل وتبولهم في صحن الجامع الكبير، هذه الجرائم لم تنفع المعتدين المحتلين ولم تقض على الروح المعنوية للمصريين المسلمين، لكن العكس هو الذي حدث، فبعد ثلاثة أعوام من دخول خيول المُحتلين الفرنسيين "الأزهر الشريف"، تمكن المصريون من دحر العدوان ورده، ومن الانتقام والثأر لكتابهم ومسجدهم الأكبر. لن يستطيع أحد، مهما كان علمه وفصاحته وثقافته، أن يقنع هؤلاء المشوهين نفسيًا وحضاريًا، أن أعمالهم وجرائمهم في حق مقدسات المسلمين لن تجدي، بل إنها ترتد على أصحابها بعد ذلك. والسبب في ذلك أن القوم لا يدركون أبدًا أن القرآن الذي أنزله الله على قلب نبيه "محمد" صلى الله عليه وسلم أغلى ما في قلوب المسلمين، وأعزها مكانةً عندهم، وأي مساسٍ به أو إساءة إليه تُعتبر اجتيازًا للخطوط الحمراء التي لن يقبلها مسلم، ولو بذل في ذلك حياته ودمه. لأن القوم لا يفهمون الإسلام، فهم كما قال القرآن الكريم فيهم: (َلهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179]. وكالعادة، فقد حاول الأمريكيون التنصل من جريمتهم، لكنهم في النهاية وكالعادة أيضًا اعترفوا بالجريمة واعتذروا عنها، أمام شدة المظاهرات، وهو ما يهدد بتسخين الأوضاع وقلبها على رءوس الأمريكان وأصدقائهم في حلف الأطلنطي. الغباء الذي أدى إلى اقتراف هذه الجريمة، أدى إلى أزمة كبيرة لواشنطن، في الوقت الذي تحاول فيه تهدئة الأوضاع في البلاد قبل انسحاب قوات "الناتو" عام 2014م، وفي وقت تتحدث فيه الصحف البريطانية والأمريكية مستندة إلى تقرير عسكري أمريكي سري، يؤكد أن "طالبان"، بدعم من باكستان، تقترب من استعادة السيطرة على أفغانستان بعد أن تنسحب قوات "الناتو". حادثة حرق المصاحف، يمكن أن تثير غضب الأفغان بشكل مماثل لما حدث في عام 2010م، حينما هدد القس الأمريكي المتطرف "تيري جونز" بحرق نسخة من القرآن الكريم خارج كنيسته بولاية فلوريدا، وحين قام أتباع هذا القس بتنفيذ تهديداته بعد عام من ذلك قام عدد من المتظاهرين في أبريل عام 2011م باجتياح مخيم لجنود من قوات الأممالمتحدة بمدينة "مزار شريف" شمالي أفغانستان وقاموا بقتل ما لا يقل عن 11 جنديًا. كما أن عدم قبول "طالبان" لاعتذارات أمريكا وحلف الأطلنطي، يؤشر لاحتمال قيام الحركة بشن سلسلة هجمات انتقامية ضد الوجود الغربي بأفغانستان.