عندما سقطت صنعاء تصدّع اليمنيّ من الداخل، ولا يزال يهوي إلى أعماقه . كانت ساعات وحشيّة، بكى فيها اليمني المعاصر كثيراً، وقال الرئيس الإيراني أن ذلك كان نصراً مؤزراً . اليمني المعاصر عليه أن يعتذر لكل أولئك الذين أحنوه، ثم غلبوه . سألت فتاة من الناجين من مجزرة مستشفى وزارة الدفاع : ماذا كنتِ تسمعين وأنت مختبئة في غرفة الأشعة؟ وهي تمسح الرعب من شفتيها قالت : أصواتاً عالية تصرخ " الله أكبر " وأصواتاً واهنة تردد : أشهدُ أن لا إله إلا الله . كانت أصواتاً يمنيّة، وكان الحزن دائماً يمنيّاً . ذلك الحزن الذي سيسميه الرئيس الإيراني نصراً مؤزراً، وسيحتفي به الحوثيون بإشعال النيران والرصاص . على اليمني المعاصر أن يعتذر لكل المنتصرين . عليه أن يشكرهم لأنهم انتصروا عليه، وأن يعتذر كثيراً لأنه أخّرهم، لأنه قاوم قليلاً ثم انكسر . سقطت صنعاء في الظلام وماتت في وضح النهار . من النقطة الأكثر ظلاماً في تاريخنا المعاصر خرج الغزاة الجُدُد . قبل عشرين عاماً قالت لي أمي : خبثاء . قبل عشرة أعوام قلتُ لها : تغيّروا، غيرتهم الحضارة . قبل أسبوع قالت لي : "سأعود إلى القرية مرّة أخرى، قلتُ لك إنهم خبثاء ." سنتذكر كل التفاصيل، وسنتذكر معها الرئيس العاري . عندما كان لا يزال طفلاً ذهب والده إلى العمل . كانت مهمته نادرة : يسحب بحبل قوي عمّال "التلييس " من الأسفل إلى الأعلى . في مرّة سحب عاملاً إلى منتصف جدار حديث البناء، ثم ترك الحبل وغادر . لم يتبق في ذلك العامل ضلع لم ينكسر . قبل عام تنبّأ علي ناصر محمد لليمن بمصير ذلك العامل . قال إن هادي سيفعل مثل والده . سنتذكر وزير دفاعه الذي باع الجيش للغزاة ونقل أمواله بطائرات هيليوكابتر . كان مصنوعاً من النسيج القذر الذي صنع منه رئيسه العاري . %75 من اليمنيين تحت السن الثلاثين . لا يوجد لص، ولا قاتل، ولا غازي، ولا قوّاد تحت هذه السن . ثار اليمني الجديد ضد اليمني القديم . ثرنا كأبناء ضد جبن آبائنا . حتى ونحن نثور كانت صدورنا مليئة بالشفقة . حتى وهم ينكسرون كانت قلوبهم معجونة بالشر . انتصر الشر على الشفقة، وسقطنا أمام الماضي . عندما اكتشفنا كلمة السر خرجنا ولم ننتظر أحداً . لم ننتظر الجيش، ولا الأحزاب، لم ننتظر الآباء ولا السفراء . وعندما فقدنا كلمة السر من جديد استنجدنا بالجيش فاكتشفنا للمرة الألف إنه لا يطلق النيران إلا حين يستدير للوراء ! استنجدنا بالمجتمع الدولي، الذي لم يعد له من وجود . حتى نكتشف كلمة السر من جديد علينا أن نعتذر لأولئك الذين انتصروا أخيراً . كان نصراً مؤزراً غمرنا بالأذى والرهبة . على اليمني المعاصر أن يعتذر للتاريخ، لنفسه، لأبيه، ولخصومه . أن يعترف أنه هزِم ببشاعة جهنمية، وأنه عالق الآن بين السماء الزرقاء الغريبة وأساطير ملك الخواتم المعتوه . لن تجدي الصلاة، لن تجدي الكلمات، لن ينقذه التاريخ . غير أن هناك حقيقة صغيرة لا بد وأن توضع في مؤخرة الرأس : المنتصرون ينتمون إلى الماضي، المهزومون ينتمون إلى المستقبل . سننتصر يوماً بحتمية آلية، سننتصر في المستقبل لأننا جزء من ضميره، وسيختفون لأنهم لا يجيدون لغته، لأنه غرباء عليه . سينقرضون عبر عملية انتخاب طبيعية، وسيعيش الأصلح لا الأقوى . حتى ذلك الحين على اليمني المكسور أن يعتذر للقوادين، والغزاة معاً .. فعندما سقطت صنعاء بكى اليمنيّون وابتهج الرئيس الإيراني . أما الفتاة التي اختبأت خلف جهاز الأشعة فقد سمعت أصواتاً عالية تهتف " الله أكبر " وأصواتاً ميتة تردد : أشهدُ ألا إله إلا الله . على اليمني المعاصر أن يضع هاتين الصورتين أمام عينيه، وفي مؤخرة رأسه، وأن يتذكرهما جيّداً . م . غ