لا يقتصر الأمر فيما يقال عن بوش الابن في المرحلة الأخيرة من انتخابات خلف له على ما يذكره المؤرخون، بل وصل إلى أقرب المقربين من بوش، ممن رافقوه في مشوار حروب العجرفة عالميا فترة من الزمن، ثم نأوا بأنفسهم عنه، واحدا تلو الآخر، وكان منهم الوزراء والمستشارون والمساعدون المقربون. وقد اشتهر من بين هؤلاء وزير الخارجية السابق كولن باول، إلى درجة إعلان تأييده الآن لأوباما من الديمقراطيين ومعارضته العلنية لانتخاب ماكين من المحافظين الجدد من حزب الجمهوريين الذي ينتمي إليه. والمثال الأعمق مغزى ما مضى إليه جو الأمريكيون يريدون انتخاب "المنقذ"، وإذا تغلبوا على عقدة العنصرية تجاه السود -وهي آخر ما يراه المحللون الغربيون عقبة في وجه أوباما- فمالوا فعلا إلى انتخابه كما تقول عمليات استطلاع الرأي، فلا ريب أن في مقدمة الأسباب أن منافسه على منصب الرئاسة لا يمثل سوى طبعة مزيدة وغير منقحة عن بوش الابن، ولهذا فهم لا ينتظرون منه إنقاذهم مما صنعه الأخير من أوضاع متردية، ومن عواقبها المتفاقمة يوما بعد يوم، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ودوليا، ويبقى نجاح أوباما في أداء مهمة الإنقاذ في حال فوزه مشكوكا فيه، ولكن ينعقد الأمل الأمريكي الجديد عليه أكثر من غريمه. ولا يكاد يتحدث أحد من الساسة والمحللين، بمن فيهم بعض المفكرين الأمريكيين، إلا ويؤكّد أن مغامرة الهيمنة الأمريكية دوليا قد انتهت، وأن انحسارها عالميا أصبح مسألة زمن فحسب، وأن ما يُنتظر من رئيس أمريكي متعقل جديد ليس إلا أن يختار الكيفية التي تضمن تخفيف حجم الأضرار، أمريكيا ودوليا. وخارج الولاياتالمتحدةالأمريكية تختلف نوعية الاهتمام من بقعة جغرافية ومجموعة دولية إلى أخرى، وبإيجاز شديد يمكن القول عن روسيا والصين بوجود من يراهن على نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وعن أوروبا بوجود تطلع خفي إلى زعامة دولية أوروبية، أما ما يسمى البلدان الناهضة مثل البرازيل والهند فنرصد ما يشبه السباق إلى مواقع متقدمة على الخارطة الدولية، وينتشر ما يشبه الشماتة المقترنة بقرب زوال الكابوس الأمريكي فيما حمل واقعيا، إن لم يحمل رسميا وصف البلدان المتمردة، مثل فنزويلا وكوبا في الجوار الأمريكي، أو إيران في المنطقة الإسلامية. جميع هذه الأطراف بدأ التحرك الفعلي على ضوء منطلقاته وأهدافه، ولكن ماذا عن غالبية البلدان العربية والإسلامية المتضررة من عهد بوش الابن وأسلافه أكثر من سواها، وكان معظمها في مقدمة من سار على طريق عسكرة الهيمنة الأمريكية، متحالفا أو معينا أو تابعا، كارها أو راضيا؟.. هل يوجد ما يؤشر إلى استيعاب أبعاد النقلة التاريخية في وضع الدولة الأمريكية على الساحة العالمية، والمرافقة لانتخابات الرئاسة 2008م وما يؤشر إلى سلوك طريق جديد من جانب الدول العربية والإسلامية للتعامل مع التطورات الدولية الجارية؟ معطيات جديدة لا داعي للتسرع في إعطاء الجواب سلبا أو إيجابا؛ فبين أيدينا ما نرصده في اللحظة الآنية، ويستدعي طرح التساؤل، ومن ذلك ما يمكن أن يسفر عنه التواصل الجديد المحدود بين إيران وبلدان الخليج، وقد بدأ لأول مرة يتطرّق للجانب الأمني الإقليمي، ومن ذلك أيضا محاولات الوساطة لرأب الصدع مع طالبان في أفغانستان وباكستان، ويمكن أن نضيف تنشيط الوجود الدبلوماسي العربي في العراق، علاوة على تحركات منفردة وجماعية هل صعيد السودان والصومال.. والسؤال: هل يمكن لمثل هذه التحركات المتفرقة المتباعدة، والمرتبطة بعوامل عديدة لا مجال للتفصيل فيها، أن تنتقل بالمنطقة العربية والإسلامية تدريجيا من واقع "دول متفرقة" إلى واقع "تكتل إقليمي"؟ وهل يمكن أن نشهد تطوّرا إيجابيا لتعامل كل دولة أو بضع دول مع هذه القضية أو تلك، بدءا بفلسطين وانتهاء بالإصلاح السياسي، على ألا يكون تعاملا انفراديا منعزلا أو صادرا عن الارتباط بهيمنة أجنبية، بل قائما على صيغة مشتركة مستقبلية تضع في حسابها أن عالم اليوم اختلف عن عالم هيمنة أمريكية كانت هي المسيطرة على الأذهان على الأقل، وسواء كانت حقيقية أو شبه حقيقية سيان، فالمهم هو أن السياسات المتفرقة المحلية كانت تبنى عليها وتنطلق منها حتى الآن. لن يكون التعامل الأمريكي بعد هذه الانتخابات مع أي قضية عالمية على غرار ما كان عليه قبلها، حتى ولو جاء رئيس أمريكي جديد أسوأ مما كان عليه بوش الابن حتى الآن، وبالنسبة إلى المنطقة العربية والإسلامية (يمكن) أن يعني ذلك فيما يعنيه: - أن الاحتلال الأمريكي للعراق سيسقط عاجلا أو آجلا، ولئن حاولت الحكومة المرتبطة به حقنه بما يسمى اتفاقية أمنية فسيؤدي ذلك إلى سقوطها معه ومع الاتفاقية. - أن محاولات حصار إيران أو سوريا أو السودان ستفقد طاقة تشغيلها الذاتية الأمريكية والطاقة المتعاضدة معها دوليا أو إقليميا. - أن مشاريع التغرير بفلسطين على اختلاف العناوين، من قبل خارطة الطريق إلى ما بعد مسرحية أنابوليس، لن تتكرر بالصورة نفسها، ولن يكون لها المفعول ذاته، مثلها مثل المغامرات العسكرية كما كان في الحرب الإسرائيلية ضد لبنان. - أن أفغانستان ستتحرر وستتهاوى مع تحريرها هيبة حلف الأطلسي مثلما سبق وتهاوت من قبل هيبة حلف وارسو قبيل سقوط الشيوعية ومعسكرها الشرقي. - أن شراء ولاء بعض الأنظمة بالمال، وبعضها بالتخويف، وبعضها بالتغلغل في مواقع صنع القرار أو عبر ما يسمّى "منظمات أمنية خاصة" و"مكاتب مخابرات أمريكية إقليمية"، و"مناورات مشتركة"، وما شابه ذلك سيفقد مفعوله تدريجيا في دولة بعد دولة. إن تحقيق ذلك والمزيد عليه لم يعد مجرد تمنيات عند من كانوا وما يزالون يرفضون الهيمنة الأمريكية من الأساس، بل أصبح من الناحية الموضوعية قاب قوسين أو أدنى، فما الذي يمكن أن يؤخره؟ اتجاه الريح قد توجد من وراء عدم تحقيق هذه "التمنيات.. أو الاحتمالات الواقعية" أسباب موضوعية عديدة، معظمها صادر عما سبق وأوجده القبول بكثير من أشكال التشابك المالي والسياسي والعسكري والأمني والاقتصادي داخل سياج الهيمنة الأجنبية، بدلا من أن تقوم العلاقات على أساس مصالح مشروعة متبادلة، كالتي عرفتها السياسات الواقعية المعاصرة في عالمنا في الأعم الأغلب. ولكن الأوضاع والارتباطات الشاذة نتيجة ذلك، والتي توصف بالأسباب الموضوعية لصعوبة الإفلات من حلقة "الهيمنة والتبعية" المفرغة، لم تولد دون جهود محلية، ولا تزول تلقائيا، بل عبر بذل الجهود الهادفة المحلية، ومن يرغب الآن في ذلك يجد ما يعطيه دفعة قوية من خلال الظروف الدولية المواتية، بما فيها الانحسار الحتمي للهيمنة الأمريكية عالميا. يبقى العامل الحاسم هو الإرادة السياسية المحلية المستقلة، بعد أن سقط كثير مما كان يذكر أحيانا لتسويغ الانصياع بأنه نتيجة إكراه لا يمكن صده، تمارسه الدولة "العظمى" المنفردة في زعامة عالمية! صحيح أن الأمور لن تنقلب عالميا بين ليلة وضحاها، ولكن اتجاه التطور أصبح واضحا أمريكيا، كما أصبح واضحا في تعامل قوى دولية عديدة، كبيرة وصغيرة، مع ما أصبحت عليه العلاقة الأمريكية بالعالم المعاصر مع ما دب من وهن في مفاصل قوة "الدولة العظمى" على مختلف الأصعدة. ولكن لم يتضح بعد شيء من معالم مبدئية أو مؤشرات أولية أو نوايا علنية للقول إن المنطقة العربية والإسلامية حسمت أمرها كما صنع سواها! هذا ما يؤمل أن يتداركه المسئولون في الدول العربية والإسلامية قبل فوات الأوان، أما البقاء في خندق السياسات الماضية فلا يعني أن الشعوب وقوى التغيير الناهضة فيها لن تتداركه، وآنذاك يفوت الأوان على الأنظمة، فجميعها كمن سبقها، ليس له بقاء إلا إلى حين.. ثم يمضي.