هربا من الحرب التي تعبث بمدينته حرضاليمنية استقر محمد ابن العشر سنوات مع أمه واثنين من إخوانه في صنعاء كنازحين. في صباح يوم غائم كان محمد وابن عمه رشاد ابن ال 11 عاما منهمكين في تنظيف إحدى السيارات أمام أحد المكاتب الحكومية بصنعاء. وبدا واضحا حداثة انخراطهم في هذا العمل وقلة خبرتهما. قربت نحوهما ملوحا بالسلام فاستقبلاني باهتمام ضنا منهما أني زبون جديد .. قال محمد: "بمائة ريال فقط نغسل لك السيارة"، وهو مبلغ بسيط لا يصل نصف الدولار- فيما يتقاضى أي عامل آخر ما بين 300 – 500 ريال-.. استهويت الحديث معهما فسردا لي مأساة وجع تئن من وطأتها آلاف الأسر اليمنية المكوية بلهب الحرب. كانا يعملان وهما لم يتناولا وجبة الصباح لعدم امتلاكهما المال، وكان إعياء وتعرق الجوع باديا عليهما.. لكن إصرارهما وعزيمتهما المكافحة كانتا سلاحهما المقاوم حتى يحصلان على مال من عرق الجبين لسد جوعهما، ويخفف من معاناة أسرتيهما. تعيش أسرتي محمد ورشاد في احد مخيمات النازحين بصنعاء محاطتان بالبؤس والعجز، ما دفع بهذين الطفلين إلى البحث عن عمل من خلاله يساندا أسرتيهما، فعملا في تنظيف السيارات في اول مهمه لهما في كسب المال بجهدهما. قال محمد الذي فقد والده مؤخرا أنه لا يستطيع مواصلة دارسته في الصف الرابع الابتدائي وأسرته في حالة عسر، ولا تملك من يوفر لها متطلبات الحياة. فكان خياره الصعب هو البحث عن عمل يواجه به شبح المجاعة الذي يخيم على معظم مناطق اليمن. يرغب محمد ورشاد في العودة للمدرسة ولمدينتهم، ولحياتهما السابقة لو توقفت الحرب، وتوفرت ظروف اقتصادية ومعيشية آمنه.. لكن ملامح وجهيهما كانت تبدي شعور استحالة تحقق ذلك على المدى القريب. في ميدان العمل وفي منطقة السنينة يعيش امجد قصة أخرى في ميدان العمل لمساعدة أسرته في مواجهة متطلبات المعيشة. يبيع امجد البيض المسلوق هو وثلاثة من إخوانه لمساعدة أسرتهم في توفير مستلزمات المعيشة. ويكسب بمفرده ما بين 400 – 800 ريال في اليوم، وهو مبلغ مقتنع به في ظل هذه الظروف القاسية. رغم ذلك لم يترك امجد مدرسته بعد فهو يدرس ويبيع البيض لزملائه في مدرسته وقت الاستراحة. الأزمة وتوقف الرواتب هما ما دفع أمجد وإخوانه لمساندة أسرتهم، لكن رغم هذا الجهد فأن ما يكسبونه بالكاد يواجه بعض من متطلبات الحياة. بات واضحا أن ظاهرة عمالة الأطفال تفشت بشكل كبير في الآونة الأخيرة حتى أن بعض قصص الأطفال صارت قضية رأي عام في اليمن. كما هو حال الطفل محمد الذي نشرت صورة له في وسائل التواصل الاجتماعي وهو يحمل طبقا من البيض لبيعه أمام إحدى المدارس بصنعاء و يتلصص بنظرات متحسرة من بوابة المدرسة لطابور الصباح لأطفال في سنه. كانت الصورة كافية عن التوضيح والوصف، وحضت باهتمام كبير لدرجة إعلان كثير من المتبرعين بالتكفل بدراسة محمد على حسابه الخاص حتى ينهي تعليمه الجامعي. وهو ما حدث بالفعل حيث عاد محمد للدراسة، وترك العمل الذي فرضته عليه الحرب والأزمة الاقتصادية الشديدة. يشيبون عند الفجر لكن محمد، ورشاد وأمجد وغيرهم من آلاف الأطفال اليمنيين "يشيبون عند الفجر" حسب تعبير الروائي اليمني المرحوم محمد عبد الولي في روايته التي حملت نفس الاسم قبل عقود من الزمن. فإذا كانت رواية محمد عبد الولي تتحدث عن الأطفال الذين انخرطوا في صفوف القتال إبان ثورة 26 سبتمبر عام 1926 وتوقفت حياتهم في تلك الحرب، فان الآلاف من الأطفال اليوم أجبرتهم الظروف الاقتصادية والمعيشية البائسة للبحث عن المال والعمل ولو كان بحمل البندقية وبرائحة الدم. فهناك قصص مؤلمة لأطفال كثيرة رمت بهم هذه الظروف إلى صفوف المتحاربين ولم يتبق من ذكراهم سوى صور فقدان معلقة في جدران المدينة وحيطان منازلهم وماسي مبكية في قلوب ذويهم. فتجنيد الأطفال في الصراعات المسلحة التي وصفتها منظمات دولية بأبشع صنوف العمالة صارت اليوم كارثة تهدد صفاء ونقاوة الطفولة في اليمن، ولص خبيث يستغل أوضاع الأسر الاقتصادية ليحول أطفالها إلى وحوش ضارية ، أو جثامين هامدة. عبود الصوفي احد المدرسين الذين فارق طلاب له من صغار السن تركوا مدارسهم وانخرطوا في صفوف المقاتلين يقول أن لون الدم صار أقرب للطفل من علبة الألوان، والكلانيشكوف بدلا عن الألعاب، وساحة التدريب والمعسكرات بدلا عن المدارس ومرح الحدائق والمتنزهات. هي ظاهرة خطيرة تؤرق الوضع الاجتماعي الكهل في البلد، وتنذر بجيل أكثر وحشية وقساوة على مجتمعه ومحيطه حسب الصوفي. لم يعد المشهد غريبا وأنت تتنقل في شوارع العاصمة صنعاء، عندما تقابلك وجوه طفولية عابسة وهي تحمل الكلاشنكوف في نقاط أمنية تفتش المارة. بدائل ضارة بحقوق الطفل رئيس منظمة سياج لحماية الطفولة/ أحمد القرشي يقول أن الكثير من الانتهاكات والجرائم والممارسات الضارة بحقوق الطفل تضاعفت بسبب الحرب وانعكاساتها المباشرة على الفئات الضعيفة والأضعف كالأطفال، حيث توقف الكثير من مصادر الدخل، ونزح أكثر من ثلاثة ملايين شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء، ما دفع الكثير من الأسر اليمنية تلجأ إلى بدائل ضارة بحقوق الطفل لتحسين سبل معيشتها كعمالة الأطفال وتجنيدهم وكذا الممارسات الجنسية ضدهم.. خصوصا مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بشكل غير مسبوق في اليمن. ويرى القرشي في حديثه ل"شبكة الإعلاميين النقابيين العرب " أن من أسباب تفشى ظاهرة العمالة عدم دفع مرتبات موظفي الدولة والضمان الاجتماعي- رغم أنها لا تشمل إلا نسبة قليلة من اليمنيين-، إضافة إلى غياب مؤسسات الدولة المتعلقة بحماية الطفل مثل الإيواء والاحتجاز والشرطة والقضاء وغياب مسئولي المسائلة وسيطرة الجماعات المسلحة على البلد بشكل كامل في السنتين الماضيتين، ما أدى إلى استقطاب الأطفال في العمالة والتجنيد والاشتراك في النزاعات المسلحة. ويضيف أن تجنيد الأطفال حسب قانون منظمة العمل الدولية يعد من أسوء أشكال عمالة الأطفال التي لا توجد إحصائية معينة بحجمها اليوم. لكن من المؤكد أن المشكلة تضاعفت إلى ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في الفترات الماضية، حسب القرشي. ويرى أن الحل من وجهة نظره يأتي من خلال التأهيل الاقتصادي والدعم المالي والفني والاستشارات للمشاريع الصغيرة والأصغر والأسرية ومشاريع القرى، لأنها تجعل المجتمع قادرا على أن يتعافى ذاتيا، ناهيك عن استثمار الموارد البشرية والمادية البسيطة في الزراعة وبعض المنسوجات اليدوية وتطويرها لتكون أكثر نفعا ودخلا للأسر. ويؤكد القرشي أن من أهم المعالجات إضافة إلى تقديم المساعدات الغذائية المباشرة هو التركيز على تحسين سبل المعيشة من خلال تأهيل الأسر والأمهات خاصة في الأسر التي فقدت العائل أو أصيب وفقد دوره كمنتج ومنفق على الأسرة. آثار سلبية ويشير إلى الآثار السلبية والخطيرة من هذه الظاهرة كالتحاق الأطفال في الجماعات المسلحة، والأعمال التي تمثل خطورة عليهم في السن ما دون الخامسة عشر من العمر، وحرمانهم من التعليم، وبالتالي بعد توقف الحرب يتحولون إلى أشخاص غير منتجين وغير قادرين على مواصلة تعليمهم، وكذلك يتحولون إلى آباء وأمهات في المستقبل غير قادرين على المساهمة بالتنمية لما بعد الحرب. كما أن التحاقهم في ما وصفه بأسوأ أشكال عمالة الأطفال يجعلهم غير ذي جدوى في المستقبل، يصبحون عرضة للاستقطاب للمجموعات الإرهابية والجريمة المنظمة وكذا الجريمة على المستوى الاجتماعي كالسرقة والنهب والتقطع وغيرها. محمد الأسعدي- المتحدث باسم منظمة اليونيسف في اليمن تحدث ل"شبكة الإعلاميين النقابيين العرب" قائلا: أن اليمن بلد فقير بالأساس من قبل هذه الحرب، فهو يعد أفقر دولة في الشرق الأوسط، ومن الطبيعي أن تجد انتشار لظاهرة عمالة الأطفال ولأسباب اقتصادية بامتياز. أطفال خارج المدرسة يقول الأسعدي أنه مع تفاقم الصراع واستمراره على مدى عامين وتأثيره المباشر على ملايين الناس في مختلف المحافظات ودفعهم للنزوح وترك منازلهم ومزارعهم ومصادر عيشهم فإنه من الطبيعي تجد الأسر نفسها مضطرة للدفع بأطفالها للعمل من أجل أن تعيش- خصوصا مع انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار الوقود وتعطل كثير من الخدمات البسيطة والأعمال الصغيرة. ويضيف أن التعطل الاقتصادي وعدم صرف رواتب الموظفين يدفع بالمزيد من الأطفال نحو السوق للبحث عن فرص عمل كي يوفروا طعام لأسرهم. معتبرا إن أسوأ شكل من أشكال عمالة الأطفال هو تجنيدهم واستخدامهم من قبل الجماعات والقوات المسلحة للمشاركة في الأعمال القتالية. وحسب المسئول في اليونسف فأن كل المؤشرات تؤكد ارتفاع كل الظواهر السلبية المناقضة لحقوق الأطفال. مستدلا بتجنيد الأطفال للمشاركة في القتال، حيث ان بعضهم لم يتجاوزوا الثمانية أعوام. ويشير إلى انه خلال العامين الماضيين للصراع، تحققت الأممالمتحدة من أن ما لا يقل عن 1,572 طفل تم تجنيدهم للمشاركة في القتال أو القيام بأدوار مساندة للمقاتلين. وإذا كان أكثر من مليوني طفل خارج المدرسة، بما في ذلك 350,000 طفل منهم على الأقل حرموا من التعليم كنتيجة مباشرة للصراع الدائر. فهؤلاء عرضة للانخراط في سوق العمل خصوصاً مع الأزمة الحادة لانعدام الأمن الغذائي في اليمن التي تعد الأكثر حدة في العالم حسب الأسعدي. يوضح الأسعدي أن اليونيسف قدمت دعماً نفسياً واجتماعياً لمئات الآلاف من الأطفال خلال العامين الماضيين ورفع الوعي لدي المجتمعات حول أهمية منح الأطفال فَرْص التعليم من أجل مستقبل أفضل لهم والبلاد. كما دعمت النظام التعليمي في اليمن ليتمكن الأطفال من العودة إلى مدارسهم وتم تأهيل أكثر من 618 مدرسة تضررت بالحرب لتصبح أمنة وصالحة لاستقبال الطلاب. ناهيك إلى توزيع الحقائب المدرسية لقرابة نصف مليون طفل لمساندة الأسر في كلفة عودة الأطفال للمدارس. ويضيف أنهم قاموا بتوزيع معونات نقدية إنسانية غير مشروطة لقرابة 20 ألف أسرة متضررة من الحرب في تعزوصنعاء منذ أغسطس 2015 حتى شهر مارس. لكن في نهاية المطاف الأزمة أكبر مما قدم والاحتياج مهول للغاية. ويرى الاسعدي أن عمالة الأطفال تؤدي إلى حرمان الأطفال من الاستمتاع بطفولتهم وتعريضهم لمخاطر تتعلق بالأعمال الخطرة وخصوصا التجنيد مما يلحق بهم صدمات نفسية ترافقهم مدى الحياة.. وعلى المدى الطويل ستستمر سلسلة العنف والتخلف التنموي في البلاد إذا لم يتم تدارك هذا الجيل ومنحه أفضل فرص الحماية والتعليم والنمو. ويعتبر أن إيقاف الحرب أكبر وأهم الخطوات نحو المعالجات لإعادة تفعيل صندوق الرعاية الاجتماعية لدعم الأسر الفقيرة بالمعونات النقدية -و إيقاف الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأطفال ودعم النظم الوطنية كنظام التعليم ونظام الصحة العامة.. هكذا يشيب أطفال اليمن منذ لحظة البزوغ بفعل الحرب والأزمة الاقتصادية التي قتلت صفاء طفولتهم وحملتهم أعباء ومهام تكبر سنهم بكثير، وما لم تمتد أياد المساندة لهذا البلد وإطفاء نيران الحرب المشتعلة فإن مرحلة أكثر قسوة تنتظر أطفال اليمن وبلدهم النزيف.