صحيفة"الأهالي" اسمعوني أيها الناس: يعيش الصف الأول من النخبة السياسية في بلادنا هذه الأيام ومنذ ما لا يقل عن سنة ونصف مرحلة تهافت الفرقاء على صياغة مرحلة ما بعد الرئيس والتحكم قدر الإمكان في طبيعة شكل الحكم ومنظومة مصالحه، بدءاً بتسمية الخليفة القادم مروراً بدوائر الرضى المؤثرة في صنع القرار.يدرك النابهون في السياسة (وكلهم ناهبون لمثل هذه المسائل) أن الذي لا يعمل حسابه من الآن لمرحلة ما بعد الرئيس قد لا يكون موجوداً في خارطة العهد القادم الذي بات أمر حدوثه قريباً سواء بنص الدستور أو بضغوط الناس (بصرف النظر عن متى سوف يذهب.. الآن أو بعد عشر سنوات). من هنا فإن ما يقرب من 80% من مشاكل الحراك السياسي الراهن تنبع من هذه الحسابات، وكل يستميت في سبيل ألا تأتي رياح العهد القادم بما لا تشتهي سفينة مصالحه.. وهم في ذلك درجات: منهم من يطمع في أن يكون هو الخليفة، ومنهم من يطمع في أن يكون من حاشيته، ومنهم من يحرص على ألا يكون الخليفة القادم ذا مشروع تتضرر بسببه إنجازاته الثقافية أو المادية، ومنهم من يحلم إلى أن يكون خروج صالح من السلطة خروجاً للحزب الحاكم أيضاً، وآخرون يعشمون في أن لا يكون منصب الرئيس القادم بيد سنحان تماماً، كما يسعى آخرون إلى أن يكون انتقال السلطة من يد صالح إلى خلف جديد انتقالاً من حكم العسكر إلى حكم المدنيين، وكل هؤلاء الفرقاء الذين أتحدث عنهم قد لا يتجاوز عددهم (36) شخصاً، لكنهم جميعاً مؤثرون وهم من مشارب شتى، يستقوي أكثر من نصفهم بالعامل الخارجي ويبني عليه ثقته، فيما النسبة الأقل هم الأشخاص الذين يضعون مكر الله عز وجل وحكمته في الحسبان.من المؤسف في الفترة الأخيرة أن مرحلة ما بعد صالح اقتصرت على الدوران حول نقطة واحدة هي مسألة التوريث مع أن التوريث هو واحد من العناوين العريضة في سيناريوهات الإعداد الجاري على قدم وساق، ومن المؤسف كذلك أن التشنج والمواقف المسبقة صبغ كل التناولات التي حاولت مناوشة هذا الأمر ما جعل إثارته كأنها تصب في خانة إغاضة الرئيس وإقلاق السكينة العامة، مع أن لا شيء قد يهز اليمن في السنوات القادمة مثل انتقال غير سلمي للسطة أو خلاف حاد حول الرجل القادم الذي سوف تحل صوره في كل الشوارع والمباني الحكومية التي ترتفع عليها صور الرئيس الحالي، الرجل الذي سوف يصدر القرارات الجمهورية ويوزع المناصب العليا على ذوي الحظ وتدبلج له القصائد ويوزع السفراء ويهنئه الرؤساء ويحضر القمم وتتصدر أخباره نشرة التاسعة والرابعة وتشتمه المعارضة (كل ما أخافه هو أن يأتي رئيس يضيق من النقد ونختنق في عهده ونقمع دون أن نجرؤ على فضحه والشكوى منه).أحمد علي لا يبدو على شكيمة كافية ليجمع حوله الملأ المتشاكس، كما أن رصيده من الاحتكاك المجتمعي ضئيل للغاية، وتبعاً لذلك فإن فكرة الناس عن سياساته وطرق معالجاته للأمور معدومة، في المقابل يبزغ نجم يحيى بن محمد بقوة ويتغلغل الرجل يوماً بعد يوم في مؤسسات المجتمع المدني ويفرخ الصحف ويشتري ولاء الرجال سلطة ومعارضة، لكن لا يبدو أنه على قدر كاف من تجنب الوقوع في المغامرة، فالغالب عليه حيوية الشباب لا حكمة الرجال ودهاء الساسة قد يكمل الشخصان بعضهما وقد تدخل البلاد في أزمة مضاعفة إذا جاء زمن الاستحقاق ولكل من الرجلين مشروعه الخاص.ثمة سنن دائرة على مدى التاريخ تقتضي منظومة من الصفات والمؤهلات لمن يتصدر الحكم، يضع العلامة ابن خلدون العصبية العشائرية في مقدمتها، ومشكلة بيت الصالح أن تتشظى العصبية فيما بينهم، خصوصاً وأن خصوم اللواء علي محسن الأحمر قد نجحوا في غرس انطباع عام عن خصومة بينه وبين أحمد علي قد تمتد آثارها لا قدر الله إلى تمترس مسلح بين الحرس الجمهوري والفرقة الأولى مدرع، ويمعن هؤلاء الخصوم في تعميق الخشية في نفس الرئيس ونجله من قوة علي محسن ليطل علينا ابراهيم بن محمد الوزير من القاهرة أن علي محسن هو الرئيس القادم، والذي يعرف سيكلوجية الرجل يدرك أن ما يهم علي محسن هو كيف يدار البلد وليس من ومدى كونه رجلاً فاعلاً في القرار، كما هو الحال الآن فقد تمر أشهر أو سنوات دون أن يظهر اسمه نشرات الأخبار لكن جزءاً كبيراً من أحداث هذه النشرات يكون من صناعته.ثمة نموذج مشابه يتمثل في عبدالله بن حسين الأحمر التي اشتهرت أسرته على مدى قرون على حرصها الشديد أن تكون يداً فاعلة في تنصيب الرجل الذي يحكم اليمن دونما طموح لأن يكون هذا الرجل منهم، ولعل حكمة هذه الأسرة قناعتها المتوارثة بالسقف الأعلى لطموحاتها وهذا سر استمرارها كأسرة فاعلة، أما حين تستلم الحكم بنفسها فإنها إما تفشل قبل تسلمه أو تنطفئ بعد الخروج منه، وبهذه الأجندة يتحرك حميد وحسين وبإحكام وتكامل واضحين.لا أعتقد أن قضية توريث الرئيس لنجله هي الغاية التي يسعى إليها الرئيس، بمعنى أن الرئيس لا يهدف من محاولة توريث نجله إلى ترسيخ أسرة الصالح كعائلة مالكة، بقدر ما يتمنى ألا تنتقل السلطة بعده إلى شخص يفتح ملفاته ويسفه عهده ويناقض نهجه (كما فعل السادات بعبدالناصر الذي كان نائباً له ثم بمجرد خلافته قلب النظام السياسي من الاشتراكي إلى الرأسمالي وشجع الصحافة والأفلام التي تسلخ العهد الناصري وتعزو إلى سياساته سبب النكسة).لهذا فإن توريث النجل هو أسلم الطرق أو على الأقل شخص بمثابة النجل كابن الأخ مثلاً، في حين لا يبدو الحزب مرتعاً معولاً عليه في صناعة خليفة الرئيس الذي يحفظ ماء وجه حكمه ويخلد ذكراه، وهذه قضية أخرى تحتاج لوحدها تناولة كاملة، إذ ثمة من يدرك أن صعود الرئيس القادم (وإن كان من بيت الصالح) قد يكون على حساب المؤتمر، فحاول البعض تقديم صيغ لتنظيمات مستحدثة لأحمد علي تسقط عنه أخطاء المؤتمر وتضمن اقتراباً نسبياً من المعارضة وكسب بعض قاعدتها وهو ما يطمح له أحمد الشرعبي حسب ظني، فيما يعمل ياسر العواضي على الجهة المقابلة بحيث يحرص على ألا يذوب الحزب الحاكم بذهاب الرئيس بل يكون الحزب خميرته المثلى وطاقمه المتنور الوفي، من هنا نفهم سبب التصريحات الأخيرة لياسر لصحيفة الشارع التي حاول من خلالها أن يظهر ولاء للمؤتمر أكثر من الولاء لشخص رئيس المؤتمر، لكنه ومن حيث لا يدري فجع الرئيس في أن فتح ملفاته، وتوجيه النقد له قد بدأ من شله نجله ولايزال الرجل على سدة الحكم.من الواجب التأكيد على أن أكثر من يخيطون لمرحلة ما بعد صالح هم من المحيطين حول صالح، ما يعني أن الرئيس القادم قد يصعد عبر بوابة الأمن وليس على دبابة الجيش ولا في ثنايا صندوق الاقتراع، كما يحلم محمد قحطان ومحمد يحيى الصبري وهذا موضوع آخر إذ أن المهم ليس من سينتخب الشعب بل من ستتفق القوى المتنافسة على ترشيحه لمنصب الرئيس.في هذا الخضم وفي ظل هذه الحسابات الأشبه بالتنجيم يشعر إخواننا الجنوبيون أنهم على مبعدة ما من لعبة المنصب الأول، ما يفسح المجال لدعاة الانقسام والترأس ولو على أمتار من الأرض، أهم شيء أن تكون دولة ذات راية ونشيد، والأحداث الأخيرة في الجنوب توحي بأن شخصاً أزيح من السلطة ومن الوطن بقوة البارود كعلي سالم البيض، من السذاجة الاعتقاد أنه اعتزل السياسة واكتفى بالإشراف على متجرين في دبي ومنتجع في صلالة، وهذا الإيحاء تزامن مع أحداث الحرب الثالثة في صعدة وترقى إلى هاجس بسبب أحداث الجنوب، وبالمناسبة يبدو من الطريف القول أن أقوى مشروع جاهز لخلافة الرئيس كان المشروع الهاشمي الذي فقد جزءاً من صوابه التكتيكي برحيل يحيى المتوكل رحمه الله، وعاد له شيء من الأمل مع الانجازات الملموسة التي حققها أحمد الكحلاني في أمانة العاصمة، لكن حرب الحوثي أفسدت الطبخة وأجلت طموح المشروع إلى حين.هناك مشاريع تتبلور ويصعد بسببها سعر القمح واعتصامات الجياع والمحرومين وتفتح ملفات الضغط بدأ بالخارج ووصولاً إلى الوحدة، وتسعى هذه المشاريع إلى التهام أكبر قدر ممكن من مليارات المال العام باعتبار المال ركناً أساسياً في الوصول إلىالسلطة، وهذا ما يمثل أحد الثقوب السوداء في قضية الفساد الحاصل، في حين تتسابق جميع المشاريع على كسب رضى الخارج المؤثر، وتقديم التنازلات والمعلومات لإثبات حسن الطاعة ونجابة الامتثال، البلد الآن تعيش أزمة مشاريع متصارعة على زمن ما بعد الرئيس، ولو أتفق الجميع واعترفوا بأن هذا هو السر الحقيقي وراء الأزمة السياسية الحالية وتفاهموا بصراحة مع الرئيس الحالي علي عبدالله صالح على خليفة توافقي (وفقاً لتعبير الحالة اللبنانية) لكان أجدى لنا ولهم، على الرئيس أن يفكر في تقوية شخص من خارج شبهة التوريث وعلى المعارضة أن لا تكون عنيدة إلى حد الغباء، وعلينا من الآن أن نقدم مواصفاتنا لرجل الدولة القادم الذي نرتضيه والذي يزرع القمح ولا تستهويه متعة الإقصاء وتسكيت الثعابين، ويجدر بنا الخشية من أن يصعد رئيساً مناطقياً أو طائفياً إذ يكفي الرئيس الحالي علي عبدالله صالح أنه خال من هذا المرض وأعفانا طيلة عهده من أن نشعر بالغبن المناطقي نتيجة تعصب الرئيس أو بالغبن السلالي أو المذهبي على الإطلاق (وستدركون دقة عبارة «على الإطلاق» بعد ذهاب الرئيس). علينا بالذات شريحة الشباب الذين سيكون العهد القادم عهدهم وتجري أحداثه على رؤوسهم أن نشترط من الآن، وأن نرسم الآن لرجل الدولة الأول خطوطاً لا يتجاوزها وولاء يطمئن به، وهو أمر لا يتناقض من وجهة نظري مع تقديم تطمينات للرئيس الحالي علي عبدالله صالح بأننا نقر أنه قدم لهذا الوطن الكثير وأن محاسنه لا تعد تماماً كما هي أخطاؤه، لكننا ربما بعد تنحيه عن الحكم سنبدأ بشكل جدي في دراسة شخصيته وإنصافه دونما خوف ولا طمع.