أسبوعاً تلو آخر يمكن ملاحظة ارتفاع منسوب الودّ السوري تجاه السعودية. ينقل المقرّبون من الرئيس السوري بشار الأسد كلاماً فائق الإيجابية عن الاحترام السوري للمكانة الملكية، وسط تململ سوري معلن من مفارقة تظهر ثلاث «قوى عظمى» في المنطقة اليوم، هي تركيا وإيران وإسرائيل، ليس وسطها قوّة عربية واحدة. وفي خطاب عروبي محض، يتحدث المسؤولون السوريون عن رغبتهم في تعزيز التواصل مع السعودية والتنسيق لما فيه «مصلحة الشعوب العربية». من هنا يدخلون إلى الكلام عن لبنان، آخذين في الاعتبار، غيباً بالطبع، كل ما ذكره الرئيس الأسد في حواره مع صحيفة «الحياة».يشير أحد المسؤولين السوريين بداية إلى رغبة سوريا في تتويج عملها المضني منذ أكثر من خمس سنوات في الملف العراقي بأقل الخسائر الممكنة، والخسائر التي يتحدثون عنها هنا تكاد تقتصر على العلاقة السورية السعودية. وبلغة واضحة، يؤكد أحد هؤلاء أن دمشق تربح في العراق ضمن اتفاق إيراني سوري أميركي تكاد تكون السعودية أكثر الخاسرين بنتيجته. لكن سوريا، وعلى الرغم من ذلك، حريصة على الاستقرار الإيجابي للعلاقة السورية السعودية. وباستخدام لغة أكثر وضوحاً، يؤكد المسؤول نفسه أن كلام الرئيس الأسد إلى صحيفة «الحياة» السعودية بشأن العروبة وعدم وجود تطابق في المواقف بين سوريا وإيران، ليس إلا المقدمة لكلام سوري إضافي، فيه الكثير من التودد للسعودية والإيحاء بأن دمشق وطهران ليسا وجهين لمشروع سياسي واحد.وما يصحّ في العراق، يصحّ أيضاً في لبنان. دمشق، التي ترى أن لها حقوقاً مكتسبة عبر الجغرافيا والتاريخ والحلفاء في لبنان، تريد الانتهاء من المشروع الأميركي، وهي المؤمنة بأن «كل التجارب تثبت أن كل ملعب فيه أميركيون يتحول إلى فوضى»، لكنها لا تريد لعلاقتها بالسعودية أن تتأثر سلباً نتيجة موقفها في لبنان، مع الأخذ في الاعتبار دائماً أن السوري والسعودي متفقان على تنظيم اختلافهما حيث لا يجدان منه مفراً. كل ذلك في ظل إجماع سوري على عدم وجود اختلاف اليوم بين السعودية وسوريا في الموضوع اللبناني، بل اتفاق على أخذ المزيد من الوقت لبلورة الحلول الممكنة.ويلمح بعض المسؤولين السوريين إلى وجود ملامح أولية لتكرار السيناريو العراقي في بيروت. فكما أعلنت سوريا في السابق دعمها لمرشح السعودية إلى رئاسة مجلس الوزراء العراقي إياد علّاوي، تعلن اليوم دعمها لسعد الحريري في رئاسة الحكومة اللبنانية. وكما كانت تعدّ نفسها فائزة في حال وصول علاوي، تعتقد اليوم أنها ستكون فائزة إذا قرر الحريري الاستمرار قوياً بمسيرته السياسية (تماماً كما ستفوز أيضاً إذا قرر اختتام مسيرته كرئيس حكومة لكل لبنان عبر تبنّي قرار ظنّي يقول المسؤولون السوريون إنه لن يقدم أو يؤخّر شيئاً في المعادلتين اللبنانية والإقليمية).وبالتالي، تُحمّل دمشق الحريري والسعودية من خلفه المسؤولية عن الوصول إلى الجدران المسدودة، إذا حصل ذلك، فهي لا تودّ نهاية كهذه لسعد رفيق الحريري.وإذ يشير أحد المتابعين إلى الدقة السورية اللامتناهية في اختيار الكلمة المناسبة للمكان المناسب، يلفت إلى إبداء الرئيس الأسد في حديثه الصحافي الأخير الاعتقاد أن الحريري كرئيس حكومة هو «الآن الشخص المناسب جداً لهذه المرحلة الصعبة». وهذا لا يعني أن هذه المرحلة ستدوم إلى ما لا نهاية.وبحسب المتابع نفسه، فإن إعلان الأسد أن أبواب سوريا لم تقفل في وجه الحريري وإبداءه الاستعداد للقاء رئيس الحكومة اللبنانية، استتبعا بتأكيد الرئيس السوري أن الالتزام بخيار المقاومة هو أمر غير قابل للنقاش في دمشق، متسائلاً «كيف يجلس مع شخص ضد المقاومة؟ (من دون تحديد هوية هذا الشخص)، ومعلناً أن أساس الالتقاء بيني وبين أي طرف هو الموقف من المقاومة».وفي هذا السياق، يشير أحد المسؤولين السوريين إلى أن الحريري سيحضر حين يشاء إلى دمشق والصورة واضحة في رأسه: لا مكان لمناقشة الشام في احتواء ردة فعل المقاومة على قرار ظني يتهمها باغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولا مكان في الشام غير المحاكم لمن يشارك في التآمر مع لجنة التحقيق الدولية على المقاومة.وبالتالي، رمى الرئيس السوري الكرة بذكاء، وفق تقدير أحد المسؤولين السوريين، بين قدمي الرئيس الحريري: أبواب دمشق مفتوحة... لمن هم مع المقاومة.، في ظل تأكيد المسؤولين السوريين أن نموذج الرئيس رفيق الحريري في علاقته مع معظم الأفرقاء اللبنانيين واحترامه لموقعه ضمن موازين القوى الإقليمية والمتغيرات الدائمة يمثّل نموذجاً يفترض بسعد الحريري أن يقتدي به.من جهة أخرى، يشير أحد المعنيين بمتابعة الملف اللبناني السوري إلى أن بعض الأفرقاء اللبنانيين، وخصوصاً الرئيس نبيه بري والنائبان وليد جنبلاط وسليمان فرنجية، بالليونة التي أظهروها، وإعلام الرئيس عمر كرامي الرئيس الأسد أن الحريري هو المفتاح الأساسي للحل، أسهموا جميعاً في التأثير على الموقف السوري الذي كان قبل التقائه بهؤلاء أكثر تأثراً بموقفي العماد ميشال عون وحزب الله الراغبين في فرض حل جذري، فحاول الأسد تليين موقفه لكنه لم يتردد في الإشارة إلى أنه «في بلد منقسم طائفياً، القرار الظني يدمّر بلداً».ويشار هنا إلى تأكيد غالبية المسؤولين السوريين أمام زوارهم اللبنانيين أن القيادة السورية تريد حلاً طويل الأمد في لبنان، يريحها ويسمح لها باستثمار وقتها في تحسين الحضور السوري في ملفات أخرى بات لدمشق في السنوات القليلة الماضية تأثيرها فيها. ويشير هؤلاء المسؤولون إلى أن تظهير الحل لن يستغرق وقتاً طويلاً، مؤكدين تركيز الرئيس السوري، في ظل الرتابة العراقية، اهتمامه على الملف اللبناني وتكثيفه لقاءاته بالمسؤولين اللبنانيين، مع العلم بأن في دمشق تذمراً من تعدّد الآراء حتى ضمن الفريق الواحد وعدم وجود إجماع لدى المعارضة السابقة على خطة يمكن تبنّيها، بالرغم من تكرار مختلف الأفرقاء أنهم يلتزمون في نهاية الأمر بما تجمع عليه الأكثرية. وعدم الوضوح في الرؤية أو في التخطيط للمستقبل يحرج المفاوضين لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط وغيرهما ممن يسألون عمّا بعد شهود الزور ولا يجدون جواباً. والمطلوب بالتالي هو المزيد من التنسيق بين الأفرقاء اللبنانيين واتفاقهم على خطة عمل، لأن دمشق في هذه اللحظة الإقليمية لا ترغب في المبادرة أو في رسم خريطة طريق ليحاصر أحد الفريقين خصمه، مع الأخذ في الاعتبار أنها ملّت مبدأ «الترقيع» الذي يسعى معظم الأفرقاء اللبنانيين وراءه منذ بضع سنوات، وترى أن الشعب اللبناني يحتاج إلى حل جذري يريح أعصابه، لا إلى مزيد من الهروب إلى الأمام، فضلاً عن تكرار دمشق أن «النظام الطائفي اللبناني يستولد الأزمات، وسيخرج اللبنانيون من مأزق ليدخلوا إلى مأزق آخر».في الوقت العراقي المستقطع، ترتّب الشام أوراقها اللبنانية بدقة، وسط اعتقاد أن الوقت الذي مضى كاف لإسقاط الأوراق البيضاء من المعادلة، لأن المصلحة الوطنية تحتّم إغضاب من يهدد سلامتها. واستفادت دمشق من الوقت الذي مرّ لتتحقق من صدقية الذين عوّدوها قول الشيء داخل الغرفة وعكسه خارجها، مع التأكيد أن النائب وليد جنبلاط هو الوحيد بين القوى غير المنضوية في ما كان يعرف بقوى 8 آذار، الذي أعطى كلمة نهائية في العديد من الملفات. * الاخبار اللبنانية