يحضرني في هذه اللحظة موضوعان حول قضية صعدة، الأول تقرير أعده فريق عمل قضية صعدة في مؤتمر الحوار الذي يتألف من خمسين عضواً واستغرق إنجازه شهرين من عمر المؤتمر، ويكلف الدولة يومياً قرابة عشرة آلاف دولار ضمن كلفة الحوار الباهظة دون مستحقات الخبراء والميسرين. لم يتعد التقرير 400 كلمة، ربعها تقريباً “شخص” المشكلة في سبع نقاط عمومية لم تخلُ من المغالطات وبضع إنجازات أخرى أثرت صحيفة التقرير، تتمثل مخاضاً عسيراً لانتخاب رئاسته وإقرار الخطط، ومداولات عامة، ما يدل على عمل “مكلفت” وتحصيل حاصل. ولو كان هناك رئاسة مسؤولة لمؤتمر الحوار؛ لكان مصير تقرير بتلك السطحية الهزلية سلة المهملات، ولكانت أقرت تقليب أحجار الدومينو وخلطها، ومطالبة الفريق بإعادة تشخيص القضية من بدايتها، عوضاً عن مطالبة الفريق للجلسة العامة بتبنيه كقرارات تلخص رؤيته لجذور قضية معقدة ومركبة كصعدة. لم يراعِ التقرير، تشخيصاً دقيقاً وفاحصاً للقضية رغم كل الإمكانات المتاحة لديه، من مشاركة أطراف الصراع في الحوار، مروراً بالبيئة المريحة من قاعة خمسة نجوم، وإتاحة مصادر المعلومات، وحتى الطائرات العمودية الكفيلة باختزال المسافات والزمن للبحث والتقصي، ليراعي في المقابل حسابات أطراف الصراع المشاركة في خلاصته وهواجسها ورغبات بعضها في إبقاء الملف مفتوحاً للاستثمار والازدهار أمام تجار وأمراء الحروب!!. بإمكان متابع مستجد على القضية سرد تلك النقاط بخفة في مقيل عابر غير ذي أهمية وتنظيم، وسيتلافى بالتأكيد بعض المغالطات الواردة في التقرير من قبيل إيراد “عدم مهنية وحيادية الإعلام” كجذر للصراع؛ مع أن أغلبية المطلعين على القضية يمكنهم الحديث عنها باعتبارها محتوىً هامشياً رافق الصراع ولم يكن البتة جذراً أو سبباً في اندلاعه، مثلها في ذلك مثل “بنت الصحن” التي أفشلت ذات وساطة تولاها عبدالقادر هلال وأفشلت بسببها. الموضوع الآخر دراسة أعدها الناشط الحقوقي المتميز عبدالرشيد الفقيه لصالح منتدى التنمية السياسية ومنظمة "برجهوف الألمانية" وتتكون من قرابة 9000 كلمة في فترة تضاهي فترة عمل خمسين عضواً مجتمعين، وبقدرات مادية لا تتعدى خُمس تكلفة عمل الفريق في يوم واحد، وفي ظل شحة مصادر المعلومات، وصعوبة التقصي والتحري وراء كثير من تفاصيل الجذور والمحتوى وإطار الحل؛ وهو ما لم يُخفه الباحث في تنويهاته. الدراسة ليست دقيقة تماماً تبعاً لتلك الاعتبارات وغيرها، والموضوع ليس أرقاماً وزيادة حبر وورق؛ بل هو حق القضية في التشخيص الدقيق.. الدراسة مقاربة واقعية مستقلة جهد الباحث على إخراجها متخففة من حسابات المتصارعين وبأكبر قدر من المسؤولية والالتزام في قضية مصيرية كهذه تتجه نحو مزيد من التعقيد، خصوصاً في ظل التشخيص “العليل” الذي خرج به المعنيون بالتحاور حولها. استمرار العمل بذات الآلية وتشخيص القضية بمعزل عن ملامسة جذورها الحقيقية؛ سيجرُ نحو تسطيح محتواها ورسم حلول ناقصة، وسيكون توقيعاً حوارياً بإشعال جذوة حرب يستعر جمرها تحت الرماد بفعل ما علق بالقضية من شحن طائفي ممنهج تتبناه أطراف معززة بما تراكم لديها من أدوات حرب ودمار، ولن يكون أفق الخروج منها سهل المنال ولن تكون اليمن - أغلب اليمن - بمنأىً عن دمارها وضحاياها وآثارها، ولن يزدهر في ظلها سوى تجار وأمراء الحروب ولا حظ فيها للدولة الضامنة للجميع ولا للمواطنين. الفرصة مازالت مواتية للفريق والمؤتمر عموماً للقيام بعمل إنساني وطني نبيل يتلافى قصور أداء الفريق في فترته المنقضية، ويستفيد من الباحثين والمهتمين وخبراء التعامل مع الصراعات والحروب والأزمات، ويعيد تشخيص الجذور (وجذورها أيضاً) ودراسة المحتوى، ورسم إطار الحل بمعزل عن هواجس وحسابات أطراف الصراع التي مازالت بعضها تحاور، وترى الحسم أقرب بلغة السلاح وإقصاء الآخر. تصرفات بعض أعضاء مؤتمر الحوار الوطني تبعث على اليأس والخجل؛ فمنهم من يتعاملون مع مسؤوليتهم بقدر كبير من الاستهتار واللامبالاة، وهناك غوغائية تصبغ كثيراً من نقاشات وتصرفات آخرين، وثمة يأس من أن يكون قدر ومصير البلاد معلقاً بذمة هؤلاء الذين يتعاملون مع قضايا الحوار ونقاشاته لكأنهم في مسرح أو سيرك هزلي. الفوضى تعم قاعات الجلسة العامة أحياناً، والمزاجية تحكم تصرفات كثير من الأعضاء في الصفوف الأمامية، حيث يتسابقون على الفوضى أمام أضواء الكاميرات دون خجل خلافاً لحال طلاب المدارس. مضت ثلاثة أشهر وفيهم من لم يدرك بعد مغزى “نقطة نظام” ليستغلها جهلاً أو تحايلاً للاستئثار بالحديث أو مناكفة زملاء في مكون نقيض. صاح عددٌ من الأعضاء في جلسة الأربعاء بصوت جماعي صاخب معترض، فرد عليها رئيس الجلسة ياسين مكاوي مستنكراً: “كيف ستطبقون العدالة الانتقالية وأنتم تتعاملون بهذه الفوضى؟!”. إنها ليست مجرد فوضى يا سيدي، فبعض التصرُفات إنما تشي بحالة من الهمجية وانعدام المسؤولية، والشواهد على ذلك كثيرة.. ما نأمله من نخبة الحوار هو أن يتذكروا فقط أنهم أقسموا على ممارسة عملهم من أجل الوطن دون انحياز أو تمييز. [email protected]