يطغى البعد الأيديولوجي على غالبية المواقف والتحليلات التي تناولت الأزمة المصرية مؤخراً وهو ما يعقّد من الموضوع على اعتبار أن كل طرف سيتمترس خلف مبررات وذرائع يتم صناعتها وفبركتها على مقاس الخلفية الأيديولوجية لصاحبها لكي تناسب ادعاءه والجهة التي ينتمي إليها أو يؤيدها. ويؤدي ذلك إلى استقطاب حاد وانقسام عميق يقضي على العناصر المشتركة ويزيد من الهوّة بين الأطراف بحيث يصبح الحل مستعصياً وندخل حينها في دوامة لا يستطيع أحد السيطرة على نتائجها فيما بعد. من الواضح أن هناك خلطاً جليّاً بين الموقف الشخصي من محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها وبين التقييم الصحيح للعملية التي تم من خلالها عزله عن الرئاسة، وهو ما ينسحب بدوره على كل ما يتعلق بهذه العملية من مقدمات ومن انعكاسات ونتائج. شخصياً كنت من أولئك الذين يرون أن أداء مرسي كان باهتاً ومليئاً بالأخطاء، كما أن هناك مزجا بين الحزبية والمنصب الرسمي الذي كان يفترض على الأقل الاستقالة من المناصب الحزبية، ناهيك عن ضعف الحس السياسي وعدم التحلي بالبراجماتية الكافية والأهم غياب الرؤية ليس لديه فقط، وإنما لدى حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان بشكل عام. لكن ذلك يعد نصف القصة فقط، أما النصف الآخر فيكمن في حقيقة أن المعارضة السياسية المتمثلة الآن في جبهة الإنقاذ قاومت منذ اليوم الأول كل النتائج التي أفضت إليها الاستحقاقات الانتخابية والاستفتاءات التي أُجريت في مصر بعد تنحي حسني مبارك عن الحكم. لقد كان هناك رفض واضح لما أفضت إليه هذه الانتخابات وإن ليس قولاً ففعل. إذ تم عرقلة عمل المؤسسات وافتعال الأزمات السياسية وتحريض الشارع، بل وحتى الاستقواء بكل من يمكنه أن يغيّر بشكل غير شرعي المسار الذي أفرزته هذه الانتخابات. حتى أني لا زلت أذكر على سبيل المثال لا الحصر تحريض البرادعي شخصياً الجيش على التدخل مرات عديدة وكذلك تحريضه الغرب واستدراج عطف إسرائيل وأنصارها حول العالم من خلال تصريحه الشهير بالانسحاب من التأسيسية لأنها لا تعترف بالهولوكوست! وقد تزامن كل ذلك مع مقاومة الدولة العميقة في مصر (الفلول) للتغيير الذي حصل جرّاء الثورة، علماً أن رجال الدولة العميقة يسيطرون كما ظهر جليّاً خلال السنة الماضية على مفاصل الاقتصاد والمال والإعلام وجهاز الشرطة، ولم تخل حتى المؤسسات السيادية منهم أيضا كالقضاء المصري. لقد أدى سوء إدارة الفريق المنتصر في الانتخابات للعملية السياسية، وعرقلة كل من الجبهة والفلول تحقيق أي تقدم في البلاد على أي صعيد سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأمني، إلى حالة تململ لدى عامة الناس، حتى أن شريحة من أولئك الذين كانوا قد صوّتوا لمرسي رئيساً تراجعوا عن ذلك. هذا الانطباع العام خبرته بنفسي عندما زرت مصر قبل عدة أشهر. لكن كل ما ذكرته لا يبرر ما حصل الأسبوع الماضي إذا كنا نتحدث عن ديمقراطية. أما إذا كنا نتحدث عن انتماءات أيديولوجية وعن أهواء ونزوات وصراع على السلطة (الكرسي) فعندها يصبح كل شيء مبرراً بهذا المنطق ولا قواعد لأي لعبة. ما حصل هو انقلاب عسكري بكل المقاييس تم التمهيد له بأخطاء الرئيس والإخوان وبتضافر جهود جبهة الإنقاذ والفلول والدولة العميقة وباستغلال فئة المتململين. ورغم أن هذا التشخيص يعتبر حقيقة لا نقاش أو جدل فيها على اعتبار أن الجيش تدخل في العملية السياسية وغيّر بحكم القوة ما أفرزته صناديق الاقتراع من شرعية غير قابلة للتغيير إلا بالطرق الشرعية. لقد قام الجيش بعزل رئيس منتخب في انتخابات تتضمن أكثر من 50 مليون ناخب، كما عطل دستوراً صوّت عليه الشعب المصري بمؤيدي مرسي ومعارضيه، وحل مجلس الشورى وهي أمور تحصل في الانقلابات وليس لها أي سند قانوني ودستوري. بمعنى آخر تم إلغاء إرادة الشعب المصري في كل المؤسسات الديمقراطية، وذلك بعد السيطرة طبعاً على مبنى الإذاعة والتلفزيون وتلاوة البيان العسكري وهو أول ما يتم في أي انقلاب عسكري تقليدي. لكن الفارق هنا أن هذا الانقلاب تغطّى بغطاء سياسي ومدني. البعض برره بأنه جاء استجابة للشعب المصري الذي غيّر رأيه وإرادته، لكن الحقيقة إن كان ذلك صحيحاً فيجب أن يتم من خلال صندوق وليس من خلال شارع وجيش، وإلا فلا معنى للديمقراطية في هذا السياق، إذ من الممكن أن تتغير إرادة الشعب ومواقفه وفق هذا المعيار كل مئة يوم من المؤسسات المنتخبة، فهل هذا يعني أنه سيتم في كل مرة تغيير هذه المؤسسات بانقلاب مماثل بغطاء سياسي من معارضي هذه المؤسسات ومدني من فئة الشعب المتململ أو الذي غيّر رأيه فيما بعد؟! الشعب هو مصدر السلطات صحيح، ولكن عبر صوته في الصندوق وليس في الشارع، أما إذا أعطى صوته لمن تبيّن لهم فيما بعد أنه لا يستحقه، فإن سحب هذا الصوت أو حجبه إنما يجب أن يتم وفق آليات اللعبة الديمقراطية نفسها التي أدلى الناس من خلالها أولا بأصواتهم. بمعنى آخر هناك قواعد للعبة وليست فوضى وهذه القواعد تنطبق على الجميع بمن فيهم الشعب والمؤسسات، وغير ذلك هو تصور محض هراء. العجيب أن عددا من دكاترة العلوم السياسية المصريين بالتحديد أخذوا يبررون بأن ما حصل ليس انقلابا عسكريّاً، فيما ذهب آخرون غربيون إلى اختراع هرطقة علمية حول «انقلاب عسكري ديمقراطي»! علماً أن حكومات الدول الغربية التي تصدع رأسنا بدروسها حول الديمقراطية صمتوا لساعات طويلة بعد الانقلاب قبل أن يأتوا ببيانات تافهة حول نقل السلطة لمدنيين، وكأن نقلها يلغي حقيقة أن هناك انقلابا عسكريا قد حصل! في تأكيد على مقولة أن «الديمقراطية عندهم كالأصنام المصنوعة من العجوة، يؤمنون بها إذا أتت لهم بما يحبون ويأكلونها إذا لم تعجبهم نتائجها»! أيا تكن المشكلة وأيا يكن الحل، فالأسلم الخوض فيها عبر الديمقراطية وبآلياتها مع ضرورة تأقلم جميع اللاعبين مع واقعها الجديد وتحمّل الجميع أعباء المرحلة الانتقالية والمسؤولية التاريخية، وتفهّم المنتصر أنه يمثل دولة وشعباً وليس حزباً أو فريقاً، لأن هذه الطريقة تبقى الأقل تكلفة على الوطن والدولة والشعب.