الدين.. الوطن.. الشعب أو الأمة، ثلاثية الحب والانتماء، وشعارات الفكر والجهد الإنساني في كل زمان، وكل مكان، ما أكثر الناس حديثاً عنها، ووضعاً لطقوس التقديس في حضرتها. وفي الوقت ذاته كانت هذه الثلاثية في كل مفردة منها سبب مآسي لا حصر لها في حياة الإنسان على مر الزمان، ليس لذاتها، وإنما لمعتقداتنا بشأنها. من المؤلم أن يصل بنا الواقع إلى العودة لنقاش بديهيات استقرت في شخصيتنا وثقافتنا، ومن المقلق أن يبقى خط سيرنا دائرياً، في كل نهاية نقترب منها نجد أنفسنا في البداية. أليس معيباً أن نتكلم في القرن الواحد والعشرين عن أن الدين أو الوطن أو الشعب ليسوا حكراً على فرد أو جماعة أيٍ كانت صبغتها أو لباسها. أليس معيباً أن يسبقنا أجدادنا ومنذ قرون إلى منهجية "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي الآخرين خطأ يحتمل الصواب".. لقد ظل الإنسان منذ وضع قدمه على الأرض يعيش معترك الوصول إلى الحقيقة أو الحق بشقيه المشهود والغيبي. وخلال طول المعترك تفاعل النص الإلهي والعقل البشري والبيئة المادية المحيطة لتكوين معرفة بشرية يؤكد كل اكتشاف جديد أنها مازالت وستبقى منقوصة وعاجزة عن توسيع دائرة القطعيات والحقائق المطلقة والنهائية بالشكل الذي يأمله الإنسان، ويقف هذا وراء اندثار نظريات حتى في المجال العلمي من حقل المعرفة، لصالح نظريات أخرى، جميعها تبنى على أساس ما تعتقد أنها حقائق. وعلى مدار التاريخ المعرفي افتقدت العلوم الإنسانية لأدوات الحسم المعرفي، واعتبار أي جزئية معرفية أنها حقيقة نهائية غير قابلة لإعادة النظر. ولولا المساعدة الإلهية عبر الوحي والأديان السماوية، لظل العقل البشري جاهلاً بالكثير من الحقائق خصوصاً الغيبية. شحة الحقائق المطلقة نتيجة استمرار نقص المعرفة البشرية، أدت إلى نسبية معظم ما نعتقد أنه حقيقة أو حق، لاسيما ما يتصل بالمفاهيم غير المادية ومنها المفاهيم الاجتماعية، ك"الحقائق" السياسية والمصطلحات المرتبطة بها، ما يجعل الاختلاف بين البشر أحد الحقائق الثابتة، ويمكن أن نقول المطلقة بسبب الحسم الإلهي لها بنص كتب الأديان السماوية وبمقدمتها ديننا الإسلامي الحنيف. إذن الاختلافات في الرؤى البشرية ظاهرة إنسانية طبيعية، وكل شخص أو مجموعة تعتنق مذهباً ما أكان دينياً أو سياسياً.. الخ، إنما تعتقد بصوابيته وبأنه الحق أكثر من غيره، وهذا حق للفرد وللجماعة، طالما اعترفوا، اعتقاداً وفكراً وممارسة، بحق الآخرين بامتلاك واعتناق رؤى مغايرة بما يجنب الوقوع في محذورات التكفير والتخوين باسم الله (الدين) والوطن والشعب، وما قد يجره من تبعات العنف وإراقة الدماء، ومن ثم إعاقة مسارات التقدم والنهوض. ما دفعني للتذكير بتعدد أوجه الحق، وعدم امتلاك أي طرف، مهما زعم من بلوغ درجات النضج والكمال، هو ما حدث مؤخراً من طروحات تلامس التكفير لفريق بناء الدولة في مؤتمر الحوار الوطني على خلفية إقرار نص خاص بهوية الدولة ولم يفرد مادة دستورية مقترحة لدين الدولة، واكتفى بنص عام، أعتقد أنه يؤدي ذات المعنى، يقول إن "اليمن دولة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها". أما مقابلة تلك الأطروحات من فريق بناء الدولة باقتراحه تضمين الدستور مادة تجرم التكفير فربما يحتاج لمقال آخر عن مشكلة تفصيل النصوص الدستورية والقانونية على حالات خاصة ووقتية.