إن الحديث عن العُرف والتقاليد لا يكتسب معنا حقيقيًا ما لم يُربط بالناس أنفسهم وبالبيئة الطبيعية والاجتماعية التي يعيشون فيها فالأعراف ليست مجرد مفاهيم مجردة بل هي انعكاس مباشر لتجارب السكان وظروفهم الجغرافية والمعيشية وفي هذا السياق يبرز جبل بارات بوصفه شاهدًا على التفاعل العميق بين الإنسان والمكان ، بارات عبارة عن هضبة جرانيتية شاهقة شديدة الانحدار يبلغ ارتفاعها نحو ألفي متر ويصعب الوصول إليها من صنعاء مرورًا بوادي النيل (1)عبر خراب المراشي كما أن الطرق المؤدية إليها من الشمال والشرق ليست أكثر سهولة ورغم وجود خطط حديثة لشق طرق إسفلتية فإن الممرات القديمة – الترابية منها أو تلك التي جُرّفت قبل عقود ما تزال تترك مداخل وعرة تجعل من السهل على قلة من المسلحين أن يعيقوا جيشًا كاملًا ويُقال أن الجبل يمتد لمسافة يومين سيرًا على الأقدام في كل اتجاه لكن التقديرات الحديثة ترجّح أن امتداده يبلغ نحو 40 كيلومترً من الشمال إلى الجنوب و60 كيلومترً من الغرب إلى الشرق عند ارتفاع يقارب 1600 متر وينحدر الجبل تدريجيًا إلى أرض متقطعة لتبدأ بعدها ملامح الصحراء أما الهضبة نفسها فهي مزيج من الرمال والنتوءات الصخرية الداكنة التي شكلت عبر عوامل التعرية أبراجًا وتلالًا متناثرة وفي كثير من المواقع تظهر صخور سوداء ضخمة معزولة وسط فراغ شاسع كأنها هبطت من السماء على رمال الهضبة . ورغم قسوة المناخ فإن المياه السطحية الناتجة عن الأمطار النادرة تمنح الحياة بعض الفرص؛ إذ تنمو الأشجار مؤقتًا ويصبح الرعي ممكنًا بل وجيدًا أحيانًا كما أن وجود آبار عميقة يوفّر حماية نسبية من الجفاف ويسمح بتأمين المياه للماشية لفترات طويلة حتى وإن تضررت المحاصيل الزراعية مباشرة بعد انقطاع المطر وتُزرع في المنطقة الحبوب خصوصًا الذرة الرفيعة إضافة إلى بساتين العنب المحوطة بالجدران ومزارع نخيل التمر وقد وصف الهمداني قبل أكثر من ألف عام هذه الهضبة بأنها واسعة متنوّعة السكنى وغنية بالمحاصيل وأن قمتها من أطيب بقاع اليمن من حيث المناخ والاعتدال لولا تكرار موجات الجفاف في العقود الأخيرة وقد باتت فترات الجفاف الممتدة لست أو سبع سنوات متتالية أمرًا شائعًا وعلى طول أودية الهضبة تنتشر منازل متباعدة تتجمع في شكل مستوطنات فضفاضة تعكسها الخرائط الديموغرافية التي رسمها الباحث ستيفن في سبعينيات القرن العشرين وقد أظهرت هذه الخرائط هشاشة النمط الاستيطاني وتباين أسمائه؛ فبينما أحصى ستيفن عددًا من المستوطنات قدم محمد يس قائمة بأكثر من 120 اسمًا لمناطق جزئية فقط من الهضبة ما يكشف عن دينامية التسمية وتغيّرها رغم ثبات أسماء القرى الكبرى والقبائل الأساسية عبر الزمن أما السكان فرغم استقرار أسماء العائلات والبطون القبلية فإن أعدادهم وتوزعهم ظل أقل ثباتًا فكثير من الأسر ترتبط بمناطق أخرى من اليمن وهي صلات حيوية خصوصًا في أوقات المجاعة وتتميّز المساكن بأنها عالية من أربعة إلى خمسة طوابق وأحيانًا ستة وقد ساعدت أموال المغتربين ودعم شيوخ بارات السياسي في توسّع البناء خلال سبعينيات القرن الماضي . أما من الناحية الاجتماعية فقد شكّل البدو الرحل نسبة كبيرة من السكان؛ إذ قُدّر في عام 1976م أن ما بين 60 و80٪ من ذي زيد كانوا بدو رحل في حين تراوحت نسبة آل أحمد بن قول وآل صلاح بين 30 و40٪ ومع أن العدد الإجمالي لم يتغير كثيرًا إلا أن النسبة تراجعت بمرور الزمن ويُحتمل أنه في القرن الثامن عشر كانت نسبة الترحال بين ذي محمد أعلى بكثير مما سجّله ستيفن حيث كانت الحياة البدوية أكثر رسوخًا آنذاك وتشير الوثائق إلى أن القوانين والأعراف ركّزت بشكل أساسي على القبائل المستقرة ما يتضح في النصوص المتعلقة باقتحام المنازل أو إطلاق النار من داخلها فالمنازل المشار إليها في الوثائق كانت بالتأكيد مبانٍ طينية ثابتة لا خيامًا بدوية رغم أن كثيرًا من الموقعين على المواثيق كانوا من أصول بدوية ، إن صورة جبل بارات ليست مجرد وصف طبيعي أو جغرافي بل هي لوحة متشابكة من التاريخ والعُرف والعيش المشترك حيث تتداخل الطبيعة القاسية مع حيوية المجتمع ومرونته في التكيف مع أزمنة المطر والجفاف ومع تبدل أنماط السكن والترحال عبر القرون . (1) وادي النيل منطقة تقع في خراب المراشي في محافظة الجوفباليمن تسمى الخراب وتعرف بوادي النيل وتشتهر بزراعة العنب.