على خلفية النزاع الروسي الأوكراني على شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود بدا الغرب، الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأوروبا بمؤسساتهم المختلفة، بما فيها حلف الأطلسي، في موقف حرج حيال الإصرار الروسي على عدم السماح بمساس أحد بمصالح وأمن الاتحاد الروسي، وبصورة عامة برزت صعوبة الترتيب الغربي للأوراق أمام صحوة الدب الروسي في عهد فلاديمير بوتين. وفي سياق الأزمة الروسية الأوكرانية ظهرت التهديدات الغربية بعقوبات ضد روسيا مناسبة للسخرية والتهكم، ومستندة إلى حجج واهية ذات صلة بالمشروعية، على الأقل بسبب التدخلات الغربية العسكرية في أفغانستان والعراق وليبيا، غير القواعد العسكرية في دول تمس مباشرة الأمن القومي الروسي، أضف لذلك ضربات الطائرات الأمريكية بدون طيار في العديد من الدول متجاوزة الاتفاقيات الأمنية –إن وجدت- مع تلك الدول، ومنتهكة لسيادتها، دون أي اعتبار للقوانين الدولية وميثاق الأممالمتحدة التي ترفعها اليوم في مواجهة روسيا. يدرك القادة الغربيون إن روسيا بوتين غير روسيا يلتسن، وأن تهديداتهم بمعاقبة روسيا ليست إلا أكاذيب يتمنون انطلاءها على شعوبهم وشعوب العالم للخروج من مأزق أخلاقي يضع ادعاءتهم بحماية السلم الدولي وضمان تحقيقه عبر القوانين والمؤسسات الدولية، محل اختبار حقيقي لن ينحموا في الانتهاء منه. حديث القادة الغربيين وتهديداتهم لروسيا بلهجة قريبة من التي يهددون بها إيران أو سوريا، هو حديث يتوجهون به حقيقة لشعوبهم وليس للدببة الروس. وليس غريباً أن يتجنب قادة الغرب –خلافاً لعادتهم إزاء الدول الصغرى- أي تصريحات أو حتى تلميحات عن أي إجراءات عسكرية، بما فيها دعم أوكرانيا بالعتاد، أو تحريك قطع عسكرية، كما فعلت روسيا مثلاً بعد التهديدات العسكرية الغربية لسوريا إبان أزمة استخدام السلاح الكيماوي. أما السبب فلخشيتهم من أية ردود روسية حادة، ولأنهم يعلمون حجم ونوعية القوة الروسية، والتاريخ العسكري للروس الذين سبق لهم إسقاط الرهان النازي في أوروبا وقبله الرهان الإمبراطوري لنابليون على أبواب موسكو. ولن يغامر الغرب بالانتحار حتى لو أعاد الروس كل الجمهوريات السوفيتية السابقة بالقوة العسكرية، وليس فقط أوكرانيا أو شبه جزيرة القرم. الدب الروسي الجريح من تعامل الغرب معه، وفي مساعدته، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، ضمد جراحه الاقتصادية بجهود رجل المخابرات وبروفيسور الاقتصاد فلاديمير بوتين عندما انتخبه الروس رئيساً لهم في العام 2000م. بالتأكيد لا مجال للمقارنة بين الإمكانيات الاقتصادية الهائلة للأوروبيين والأمريكيين بناتجهم المحلي الإجمالي البالغ 40 تريليون دولار مقابل 2.5 ترليون دولار فقط الناتج المحلي الروسي –حسب تقديرات السنة الماضية- غير أن خبراء الاقتصاد وعلى رأسهم الغربيون يفيدون بأن الغرب يحتاج روسيا أكثر مما تحتاجه هي، وعليه فالتهديد بعقوبات اقتصادية لروسيا لن يكون ذا أثر يذكر. بالنسبة للولايات المتحدة تجارتها مع روسيا لا تتعدى 1% من تجارتها الخارجية، وباستيراد يصل 27 مليار دولار سنوياً مقابل تصدير لروسيا بقيمة 11 ملياراً وقروض المصارف الأمريكيةلروسيا لا تتجاوز 30 مليار دولار، وهي مبالغ بمقدور الاقتصاد الروسي التعامل معها بمنتهى السهولة. أما الاتحاد الأوروبي فسيكون متضرراً أكثر من روسيا في حال مشاركته في عقوبات اقتصادية على روسيا، باعتبار أن بوتين وصل بحجم التجارة مع الأوروبيين إلى قرابة 250 مليار يورو سنوياً، ناهيك عن اعتماد الاتحاد الأوروبي على روسيا في تغطية 30% من احتياجاته من الغاز. فضلاً عن ذلك يقف الاقتصاد الصيني –ثاني أكبر اقتصاد في العالم- إلى جانب روسيا ما يجعله بديلاً مفضلاً حال تطرف الغرب في أي عقوبات اقتصادية. أما سياسياً فقد يستطيع الغرب عزل روسيا جزئياً في مجال العلاقات الدولية إلى حين تمكنها من توسيع تحالفاتها مستقبلاً. هناك حقيقتان ماثلتان في المشهد العالمي اليوم: الأولى أن الدب الروسي بدأ بالنهوض، وبحكم ثقله العالمي كدولة فإنه في طور خلق دول حليفة. الثانية أن هناك خلافاً تقليدياً روسياً غربياً وخصوصاً أمريكياً في السياسات الدولية لعل من مصلحة الدول الصغرى وبينها العربية استغلاله ولو في إيجاد قدر من توازن نفوذ على الأدنى يقلص مستوى تأثير الدول الكبرى في قراراتها. *صحيفة الناس