كان واقعنا مأساويا ولا زال. كنا نحلم بإمبلاج الضوء الذي لا يدع مكانا للعتمه.. الضوء البهي بهاء الشمس في رابعة النهار.. وكانت أحلامنا تنمو معنا وتتفتح براعمها شيئا فشيئا بعيدا عن أعين الطغيان.. كان للتوانسة فضل السبق في اتخاذ القرار الأكثر إيلاما، الأكثر إشراقا.. وكان البوعزيزي الشباب الأعظم شجاعة حين أشعل شرارة البداية في ذروة غضبه وبؤسه وألمه.. وهكذا، امتد شعاع الثورة براقا، لامعا، وضاحا، نقيا نقاوة الأرواح التي عرجت للسماء مغمورة ببهجة افتداء الفجر الجديد.. إنها للحظات تجل عن الوصف أن تتلمس عن قرب تباشير النهار بعد ليل دامس، موحش. أن ترى الوطن الذي طالما تمزق قلبك حزنا لواقعه وقد أضحى قاب قوسين من انعتاقه المروم.. إن لحظة كهذه لكفيلة بأن تجعل النفس تجثو على ركبتيها وكأن نجما سقط بأعماقها ليبدد ظلمات اليأس والقنوط. فأي قوة في الأرض تستطيع حينذاك إرهابك وتخويفك وقد غدا حلم السنين هو الحقيقة التي تبدو كصحوة كبرى بعد سبات طويل.. إن ضوء الثورة وإن كان قد لامس قلوبا مفعمة بالحماس والشهامة والجرأة والأمل والحب والإخلاص، فإنه قد أرعب قلوبا أخرى.. قلوبا مشحونة أنانية وكرها وعجرفة وسفاله.. ومن هنا يجب أن نعرف وبحسب تعبير فيكتور هيجو في روايته العظيمة "البؤساء" أن الثورات كثيرا ما تتوقف في منتصف الطريق. وما من أحد إلا ويعرف جيدا أن ثمة قطاع طرق ومجرمين وانتهازيين ووصوليين سيضطرونها للتوقف. لكنه توقف إجباري لن يدوم طويلا إذن.. فما إن تسترد الثورة أنفاسها إلا وتنهض من جديد وتنتصر، فينسحق دعاة الموت تحت قوة إرادة الحياة.