يعتبر الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ الزائر في جامعة حمد بن خليفة، أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة ونائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، إن العلاقة بين الفقيه والسلطان شكّلت إشكالية كبرى في التاريخ الإسلامي والواقع المعاش اليوم، وأنها إحدى الإشكاليات البارزة في تاريخنا من وقتٍ مبكر وإلى الآن، الحديث: "فئتان إذا صلحتا صلحت الأمّة وإذا فسدتا فسدت الأمّة" يعني أثر قول مأثور وينسب حديثاً، وحديث "ألا وإنّ رحى الإسلام دائرة وإن السلطان والكتاب سيفترقان، فكونوا مع الكتاب" إلى آخره من الأحاديث حتى ولو كانت ضعيفة فإنّها تعكس هذه الإشكالية، علاقة السلطان بالعالِم هي قضية مبكرة، والعلماء اختلفوا فيها لأن العلماء ليسوا دائماً هم حلفاء السلاطين وليسوا دائماً على وفاق معهم وليسوا معهم كما يُقال سمن على عسل دائماً؛ بل العلماء مفترقون في جميع العصور، منهم الذين قالوا نفرُّ بديننا ونعلم طلبتنا ونعكف في مدارسنا ونخدم العلم هذه وظيفتنا نحن علماء فنحن في خدمة العلم، ومنهم من انفتحوا أكثر من ذلك على المجتمعات، ومنهم من تعاملوا مع السلاطين بدرجاتٍ مختلفة، الإشكال طبعاً كان أكثر وأكبر وهو محل السجال الذي لا ينتهي والفئة التي اختارت أن تلتحق بقصور الحكام والأمراء وتعيش في مزارعهم وعلى أعطياتهم وتتماهى معهم في ما هم فيه، هذه هي.. هذا هو الإشكال الحقيقي، أما حتى الذين ربطوا العلاقات بمقدار محسوب لينصحوا بما معناه أنهم لا يتركون الحاكم لنفسه ولمختلف المؤثرات ولكن أيضاً لم يندمجوا معهم، هؤلاء موجودون، إذن الإشكال كان أكبر وما زال، حينا يقال العلماء والحكام أو العلماء والسلاطين هم الفئة التي اندمجت في الواقع السياسي. بينما يرى الكاتب والباحث العُماني أيضاً الدكتور زكريّا المحرّمي، أن علينا ابتداءً أن نحدّد ما هي العلاقة وكيف ينبغي أن تكون هذه العلاقة بين الفقيه وبين السلطة؟ العلاقة يجب أن تقوم على تحديد المساحات والدوائر التي يتحرك كل طرف فيها فينبغي على السلطة والسلطان أن يقوم بإدارة شؤون الناس بينما ينبغي على الفقيه أن يقوم بالدور الذي ننسبه الآن إلى من نسميّه المثقّف وهو دور الرقابة على السلطة ودور توعية الناس بحقوقهم ودور نقد وتوجيه سواء كان المجتمع أم السلطة والنظام القائم، للأسف الشديد ما حصل في تاريخ الأمة الإسلامية أنّ هذه العلاقة لم تستمر أكثر من فترة الخلفاء الراشدين وبعد ذلك يمكن مع الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز وربما الهادي العباسي ونور الدّين زنكي الأيوبيّ، لكن اختفت هذه العلاقة الطبيعية وما حلّ محلها هو الوضع المعكوس، الذي حلّ محلّها أنّ الفقيه هو من يسوس الناس لإخضاعهم لرغبات السلطة التي تعلّمهُ كيف يخضع هؤلاء الناس. أدى ذلك إلى نشوء الاستبداد، فدائماً عندما يوجد الاستبداد تكون ردة فعل الناس هي واحدة من أربع أو خمس حالات. الحالة الأولى: إما أن يثوروا وهذه الحالة حالة الثورة ضد الاستبداد حصلت في تاريخ الأمّة ابتداءً من ثورة الإمام الحسين ثم ثورة عبدالله بن الزبير ثم ثورة ابن الأشعث والقرّاء وثم ظهروا الخوارج فالثورة يمكن أن تكون حالة من حالات الاستجابة للاستبداد. الحالة الأخرى: هي الرفض ولكن مع عدم القدرة على الثورة وهذه وجدت عند حتى من زمن معاوية لدى كثير من الصحابة ولعلّ منهم ابن عباس وغيره بعد ذلك وحتى وجدت عند الإمام جابر بن زيد من التابعين والحسن البصري وأبي حنيفة والإمام سفيان الثوري الذي سأله رجل قال له: إني أخيط للظلمة فهل أنا من أعوانهم؟ قال: لا بل أنت منهم، الذي يعطيك الإبرة من أعوانهم، هذه فئة، الفئة الأخرى هي الفئة التي آمنت بما يسميه محمد عبدالجابري مبدأ الأمر الواقع وهؤلاء لعلّهم أغلب علماء مدرسة أهل السنّة، هم قالوا بأنّه يجب على الأمّة أن تتكيّف مع هذا الوضع، وهناك مقولة تنسب إلى المالكية بأنّ "من اشتدّت وطأته وجبت طاعته". مفهوم الطاعة ممكن أن نتحدّث كيف تسرب إلى الأمّة، لأنّه في الحقيقة لا ينتمي لا إلى بيئة العرب ولا إلى قيم الإسلام العليا، طبعاً في حدود خارجة عن الحدود المقبولة. حالة أخرى من حالات الاستجابة للاستبداد هي الانسحاب، وهذا ما قامت به حركات التصوّف تنسحب وتبتعد وتنعزل.. رجال الاستحمار ووعاظ السلاطين يضيف المحرمي: الحالة الأخطر هي حالة الفئة التي تبحث عن الفرص وتتماهى مع الوضع وتتسلق وتتزلّف، وهذه هي الفئة التي عُرفت بوعّاظ السلاطين وعُرفت بمسميّات أخرى يعني كما يسميّها علي شريعتي برجال الاستحمار. يقول أحمد الريسوني: الضرر هو أنّ العالم في الأصل هو حارسٌ للدين وحامٍ للدين ومدافع في جبهة الدين فإذن هذه الجبهة يُخليها وينقلب إلى مدافع عن السلطان، عن شرعيّته عن تمجيده عن.. ربما يقتربُ من تأليهه، هذا هو المشكل ينقلب العالم من وظيفته التي هي أنه متحدّثٌ عن الإسلام معرّف بالإسلام منافحٌ عن الإسلام، حامٍ له من الانحرافات ومن البدع ومن الاستغلال، آمرٌ بالمعرف ناهٍ عن المنكر، أن يتخلّى عن هذا أولاً ثم ينقلب ولو إلى حدّ ما إلى ضدّه. يحضرني هنا الاصطلاح الذي استعمله الدكتور حاكم المطيري "انتقلنا من الشّرع المنزّل إلى الشّرع المؤوّل" أي المفسّر حسب فهم بما تقتضيه المصلحة، فإذن دخلت مجموعة من التأويلات في الدين، طبعاً هناك أحكام لا تمسّ السلاطين هذه لم يمسّها أحدٌ بتغيير. لكن الأحكام التي تتعلق بالسياسة، بالحاكم بالبيعة بشرعيّة الحاكم، بالاحتجاج عليه، وأمره بالمعروف والنهي عن المنكر بصفة عامة بمسألة الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا كلّه ضُيّق.. أصبح النص هو تلك التأويلات ليس فقط هي تأويلات خارج النص، النصوص صُبغت بهذه التأويلات، مثلاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأحاديث والآيات معروفة كل مؤمن ومؤمنة والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء، بعضهم يأمرون، المؤمنون والمؤمنات بدون تحديد، من رأى منكم؛ من رأى منكم المسلمين جميعاً منكراً فليُغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، جاء الشرع المؤول فقال لا تغيير باليد إلا للسلطان ولا تغيير باللسان إلا للعلماء الذين أذن لهم السلطان والأمّة تغيّر بقلوبها بمعنى أغلق بابك وغيّر في قلبك والتغيير بالقلب هو ليس تغييراً وإنما هو تنبيه إلى أنّ الإنسان إذا عجز عجزاً مطلقاً على الأقل يحتفظ بكراهية الباطل ويحتفظ بقلبه وبموقفه المبدئي، هذا تأويل. طاعة الله وطاعة ولي الأمر علي الظفيري: بس هذا خطير يا دكتور بمعنى إنه هذه الفكرة التي يمكن أشار إليها دكتور زكريا قبل قليل، فكرة طاعة وليّ الأمر، طاعة وليّ الأمر أصبحت ذات أولوية حتى على طاعة الله سبحانه وتعالى وعلى طاعة التعاليم الأساسية، أصبحت كيف نشأت، كيف نشأ هذا المفهوم تاريخه ووين وصل فينا اليوم؟ يعقب زكريا المحرمي: لو نظرنا إلى النّص الديني سنجد أنّ النص الديني ينقسم إلى النّص القرآنيّ والنص الروائي الذي يُسمّى السُّنة النبوية. النص القرآني يتميز بأنّه مشحون ومكتنز بالآيات التي يعني تدعو إلى القيم البهيجة كالعدالة والحريّة والمساواة والإحسان ورفع الظلم، حتى أنّ الإمام الحسن البصري يقول بأن الدين بين لاءين الأولى هي ولا تطغوا والثانية ولا تركنوا إلى الذين ظلموا، في المقابل نجد أنّ هذه النصوص التي تسمى السّنة والتي كتبت بعد 150 عاماً من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى أنها كُتبت في الحقيقة في عصر السُّلطة المستبدة تحت عين السلطة وبصرها وكثير منها تحت توجيهها، نجد فيه الكثير من الالتباس، هناك روايات تتوافق ودلالات الكتاب العزيز تدعو إلى محاربة الاستبداد ولكن هناك أيضاً روايات تدعو إلى الخنوع لرغبات الحاكم ولو ضرب ظهرك وقطع بشرك وأخذ مالك، مما أحدث ارتباكا لدى العلماء، وهذا الارتباك أشار إليه الإمام محمد رشيد رضا في تفسير المنار وخرج بنتيجة لعلّها تبدو لي أنها هي التي وجّهت الحركات الإسلامية إلى كيفية التعامل مع الاستبداد وذلك من خلال الخروج والثورة التي يقودها الرأي العام.. المشكلة أنّ الخروج الأول لم يكن موفقاً؛ لأن الخروج الأول على الحاكم حدث في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان وذلك الخروج كان فيه الكثير من عدم التنظيم وعدم الاعتدال مما أدّى إلى اغتيال الخليفة الراشد رضوان الله عليه، ثمّ كان الخروج الثاني في عهد الإمام عليّ وذلك الخروج كان خروجاً فيه كثير من المغالطات مما أحدث انقساماً لدى الأمّة، فلذلك صارت عملية الخروج على الحاكم مرتبطة دائماً في ذهن الأمّة بالفتنة والإشكالات.. أحمد الريسوني: ونحن نتحدّث عن الطاعة الكسراوية والقيصريّة لا بُدّ أن ننبه إلى أنّ هناك طاعة الشرعية والمشروعة والواجبة للحاكم الشرعيّ الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، هذا شيء مسلّم ومأمور به في القرآن الكريم وفي الأحاديث.. أولا أن يكون حاكما شرعيا معتمدا من أهل الحل والعقد ومحل رضا الأمّة، هذا الذي يمتلك حق أن يأمر فيُطاع، وماذا يأمر؟ يأمر بمصالح الأمة.. حكامنا الآن ليسوا سواء، لا يمكن أن نصدر حكما عاما على الجميع؛ لكن نقول: الحاكم إذا تنصّل من الشريعة كما يقع اليوم كما لم يقع في عصر من العصور، إذا تنصّل من الشريعة جملة وتفصيلا ومبدئيا ودستوريا هذا لا شيء، هذا عدم في الناحية الشرعية عدم، كذلك الحاكم إذا تمادى وهذه هي العبارة المستعملة عند الجويني وغيره إذا تمادى يعني لم يتنصّل من الشريعة لكن تمادى في ظلمه، في خروجه عنها، في تأويلها تأويله فاسدة، في المظالم هذا إذا تمادى سقطت شرعيته بدون شك. الإسلام جاء يبني دولة الشرعية، ولا شرعية بدون طاعة، الطاعة هنا هي التزام بنظام الدولة ونظام الحاكم وسلطاته وسلطة القاضي والمحتسب.. الخ، هذه أمور لا بد منها، الإسلام جاء فأخرج أول من أخرج العرب من حالة اللادولة واللانظام واللاشرعية إلى حالة منظمة ومتحضرة. مفهوم الطاعة بولغ فيه وأصبحت طاعة مطلقة وأصبحت طاعة عمياء وأصبحت طاعة مؤولة مصحوبة بالتأويل بحيث إذا فعل المنكر أؤول بمختلف الأعذار، إذا ترك المعروف أؤول ذلك بمختلف الأعذار، إذا خالف الحاكم الآيات والأحاديث التمست له ومع ذلك يقال بطاعته مهما كان، هذه الطاعة بلا حدود وهي التي ما أنزل الله بها من سلطان، القرآن الكريم كما فيه أطيعوا فيه ولا تطع ولا تطع كم آية فيها ولا تطع، "لا تركنوا إلى الذين ظلموا"، "لا تطع كل" المسرفين والظالمين فكما موجود هذا في الآيات والأحاديث موجود هذا في الآيات والأحاديث، وفيه كذلك مناهضة الحكّام والوقوف في وجههم كل هذا موجود، يجب إعمال هذا كله وليس تعطيل النصوص التي تحث على النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضرب على يد الظالم هذه تعطّل وتنسى وتأول وتأتينا نصوص الطاعة المطلقة على الطريقة الكسراوية والقيصرية التي تسرب، نحن بدون شك كما أثبت ذلك عدد من الباحثين يعني أخلاق فارس وسياسة فارس والروم القيصرية والكسراوية انتقلت إلينا شيئا فشيئا. زكريا المحرمي: الأمة الإسلامية عموما تعاني من إحسان الظن الزائد، حتى عندما غزى نابليون مصر في عام 1779 و1778 قال لهم أنا لم آتِ لحرب الإسلام، بل أنا محب للإسلام وجئت لأدرس الإسلام ولأنصر الإسلام، فدائما المستبد لا يأتي للناس بصورة فجة ويقول لهم أنا ضد الدين أنا أريد. السلطان يدرك قضية عدم مواجهة الناس فيما يعتقدون.. الإشكالية حصلت في أنه الفقيه المسلم اعتبر أن الإسلام وجوهره مرتبط بما يسمى بأركان الإسلام الخمسة، فمن أتى بهذه الأركان هو مسلم فلذلك اشترطوا بأنه لا تجب الثورة على أي إمام إلا ما يأتي بكفر بواح. واحد من الأركان الخمسة.. هو عندما يظلم هو لا يأتي بكفر بواح، عندما لا يساوي بين الناس لا يأتي بكفر بواح، فلهذا ظلت الأمة طوال 1400 عام تعاني من هذا الظلم وهذا الاستبداد ولا أحد ينكر ولا أحد يثور، الآن الذي حدث الثورة العربية في الربيع العربي هو في الحقيقة ليس بسبب أن هناك تجديدا في الفكر الإسلامي ولكن لأن هناك مياه جديدة تم صبّها في العقل العربي غسلت كثير من تلك الأفكار، والذين ثاروا كانوا هم الشباب، ونحن رأينا أن الفقهاء ليسوا فقط فقهاء سلاطين حتى الفقهاء التقليديين أو ما يسمى الفقهاء السلفيين وقفوا بالضد من هذه الثورات حتى بالعكس وقفوا بالضد من مشاركة الناس في مواقع التواصل الاجتماعي وقالوا على سبيل المثال أن تويتر مجلس الشيطان، وصدرت فتوى من 500 عالم في اليمن على سبيل المثال بتحريم الثورة على الحاكم المستبد، ورأينا فتاوى تجيز قتل الناس في رابعة العدوية وغيرها، إذن القضية أن هذا الفكر متأصل في الفقه الإسلامي ليس فقط فقه من نسميهم بفقهاء السلطة ولكن حتى في الفقه الإسلامي التقليدي الذي في تصوري يحتاج إلى مراجعة وإعادة تعريف لما هو الإسلام. فقيه السلطان الفاسد أحمد الريسوني: كما ذكرت في حديث في البداية يشير إلى أن فساد هؤلاء وهؤلاء يعني فساد إفساد المجتمع، إفساد الدولة، إفساد الحياة، إفساد الثقافة ولعل أفضل من شرح وشرّح هذا الموضوع هو عبدالرحمن الكواكبي- رحمه الله- في كتابه الفذ في تاريخ الفكر البشري كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" فهو الذي شرح وشرّح الآثار السرطانية المدمّرة للاستبداد، وبين أن من أشد أدوات الاستبداد فتكا أداة استعمال الدين وعلماء الدين، وذكر هو أن الحاكم لا يهمه صلاة الناس وصيامهم فليصوموا ما شاءوا وليقوموا الليل، هو تهمه الأحكام التي تمسه وتقيد سلطانه وتصرفه في الأموال وتصرفه في الأرواح وتصرفه في الدولة الباقي افعلوا ما تشاءون، فإذن الفقيه الذي يسكت على هذه الجوانب هو شريك في إفساد الدين، وتشويه صورته.. الثورة على الفقيه هي ثورة فقهية، يجب أن يثور عليه من هم من صنفه، من يفهمون. عدد من العلماء من هذا الصنف كثير من الناس لا يلتفتون إليه، وأنا أذكر حادثة طريفة وقعت، واحد من علمائنا الرسميين في المغرب البارزين اتصلت بي زوجته تستفتيني قلت لها فلان قالت لي لا أنا أريد أن أسألك أنت. زوجته لا تؤمن به، ولا تعرف قيمته. زكريا المحرمي: لقد أثخن هؤلاء الفاسدون في جسد الأمة الحضاري وفي تراثها الكثير من الجراح، لقد أحدثوا انشطارا في ضمير المسلم ووجدانه، جعله يعني منقسما بين قيم يقرأها في كتاب الله وسنة نبي الله الموافقة لكتابه وبين ظلم واستبداد وطغيان يشرعنه هؤلاء. يعني مثلا سأتكلم في التاريخ يروي الأمام ابن تيمية أنه بعد وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز أراد الوليد بن عبدالملك أن يحكم بنفس سيرة الخليفة الراشد ولكن جاءهُ أربعون شيخاً يحلفون له بكتاب الله أن أمير المؤمنين أو الأمير الله سبحانه وتعالى يتقبل حسناته ويتجاوز عن سيئاته فعندما نسمع مثل يعني هذه الحوادث.. عندما نجد قولا لأحدهم أتصور هو اسمه ابن هاني يقول لأحد الفاطميين ما شئت لا ما شاءت الأقدار فأحكم فأنت الواحد القهار. اليوم ما الذي يفعله هؤلاء، هؤلاء الناس هم الذين يدافعون عن الظلمة والفسدة يمارسون نوعا من تزييف.. هم يخلقونهم، يعني عندما مثلا كالحالة المصرية على سبيل المثال، عندما وجدت الديمقراطية ووجد خيار الناس، بعد أحداث 30 يونيو وجدنا هؤلاء الناس يظهرون مثل ما يظهر يعني عفوا على التعبير مثل ما يظهر الدود على الجثة وظهروا ليبرزوا أصناما جديدة ليعودوا لنا الاستبداد الذي قبره الناس. أحمد الريسوني: الشيعة طبعا أخذوا الحكم في هذا العصر.. وهذا هو الغالب الآن حالات محدودة، نحن على سبيل المثال حين حكم العبيد في شمال أفريقيا وخاصة في مركزهم الأول تونس ثم امتدوا شرقا وغربا حقيقة للتاريخ للأمانة فقهاء المالكية ظلوا يحاربون ويتصارعون مع النظام الشيعي العبيدي إلى أن أسقطوه، لأسباب دينية على كل حال؛ وقاوموا ولم يستسلموا. معظم التاريخ هو تاريخ سني، الأجواء هي نفسها، الحالات هي نفسها، ولكن دائما ُنذكّر العلماء فئات متعددة نحن نتحدث عن فئة من هؤلاء. فئة من هؤلاء فئة واكبت وأفسدت أفسدت على الناس دينهم ودنياهم. زكريا المحرمي: المذهب الإباضي قام على هذا الاستثناء، إن المذهب الإباضي يجيز الخروج على الحاكم الظالم والظلم عندهم هو عدم تحقيق العدالة، فلهذا أقام الإباضية في عُمان خاصة دولة امتدت لأثنى عشر قرنا، تقوم على الشورى وتداول السلطة، هذه الشورى كانت مقتصرة على الفقهاء، عندهم في فقههم يرون بأنه حتى الخطابة للظلمة تعتبر معصية يجب للإنسان أن يتوب منها.. هناك نديّة دائما بين الفقيه والسلطة، لكن قد توجد حالات أن صاحب السلطة أو رأس النظام أو السلطان لا يتم اختياره من قبل أهل الحل والعقد عن طريق الشورى، هنا ينظر الفقهاء هل هذا السلطان يحقق العدالة؟ أم هو لا يحقق العدالة؟ فإن حقق العدالة يكون هناك نوع من القبول الشعبي وإن تجاوز نطاق العدالة يسقط. علي الظفيري: يعني تبدو هنا دكتور الحالة في الحالة الإباضية ثمة نديّة وثمة بيئة أفضل من البيئات الأخرى في العلاقة بين الفقيه والسلطان؟ أحمد الريسوني: معروف أن الإباضية وهم عادة البعض يصفهم بأنهم منبثقون عن الخوارج فشيء طبيعي أن يكون لهم تشدد في الموقف من الحاكم وإن كان الآن هم لا يختلفون جوهريا عن المنهج العام لأهل السنة لكن هذا هو الأصل، الأصل أنهم لهم موقف سياسي على العموم يتسموا بالمعارضة وبالشدة وبالصلابة هذا معروف عن الإباضية. مكانة استثنائية للفقيه أحمد الريسوني: مكانة العلماء في الدين مسألة شرعية وصحيحة في الأصل. نحن بحاجة لجميع أصناف العلماء، هذا لا شك فيه، لكن حديثنا الآن عن العلماء الشرعيين، والعلماء الشرعيون لهم مكانة هذا لا يمكن إنكاره، أيضا نحن لا نريد أن نؤول تأويلا مضاداً. مكانتهم مقررة شرعا، مستمدة من أن نسبة كبيرة منهم ليس على النحو الذي نتحدث فيه، فهناك علماء أخذوا مكانتهم عن جدارة واستحقاق، الأمة كلها تعرف سلطان العلماء هذا اللقب من أعطاه إياه؟ لا وزير أوقاف ولا رئيس كذا ولا خليفة ولا كذا، هذا أعطته له الأمة والعلماء سلطان العلماء وسلاطين العلماء كانوا دائما.. فإذن النظرة إلى العالم ليست دائما من خلال هذا الذي يمثل ظل السلطان، ظل السلطان له حقيقة يستفيد من هالة العلماء ومن مكانة العلماء ومن عمامة العلماء لكن طبعا مكانة العلماء ليست دائما مصطنعة أو مفروضة إنما هؤلاء الذين حملوا عمائم العلماء وحملوا ألقاب العلماء ومظهر العلماء والتحصيل العلمي، يعني ثقافة العالم عندهم هؤلاء الذين أساءوا استعمالها، يعني يجب أن نتجه إليهم ونتحاسب معهم لا أن نزعزع مكانة العلماء، إحنا كما قال الإمام مالك كل واحد يؤخذ من كلامه ويرد؛ ليس عندنا علماء معصومون مهما بلغوا، العلماء يمكن أن يحاسبهم الناس والناس يراقبون ويعرفون، يمكن أن يحاسب العلماء العلماء أيضا، فهذا الذي يجب أن نمارسه. الأمة تحاسبهم في الأمور الظاهرة، تحاسبهم في الموقف. زكريا المحرمي: أغلب الفقهاء اليوم هم موظفون لدى النظام الحاكم ولدى المؤسسة الرسمية. هي وظيفة. هو موظف حكومي. بالمرتبة الفلانية. فلأن النظام الحاكم في العالم العربي ليس على ما نشتهي نحن ليس بالصورة التي نتأملُها عندما نرى العالم المتحضر، لذلك كل أمراض هذا النظام كما تنتقل من المستبد إلى بقية الموظفين هي أيضا تنتقل إلى هؤلاء الفقهاء، لكن ليسوا كل الفقهاء سواء، هناك بعض الفقهاء من هو ملتزم بمبادئه ملتزم بقيمه ملتزم بأخلاق العلم التي تحضه على التواضع وتحضه على العمل من أجل مصلحة الأمة، لكن هؤلاء يؤسفني أن أقول أنهم يمثلون القلة وهي قلة محاصرة مطاردة تسن القوانين من أجل شيطنتها ومحاربتها ولكن من هو متسيد الساحة سواء كان إعلاميا أو شعبيا في المنابر هو تلك الفئة التي تتماهي مع الخطاب الذي تقدمه الأنظمة التي تريد لنفسها البقاء على حساب الأمة. دور رجل الدين الحقيقي أحمد الريسوني: هذه الصورة تختصر المشكل الذي نتحدث عنه اليوم هذه الصورة المختصرة من أفراد قلائل؛ فيهم كما ذكرت إيمان النصارى وإيمان المسلمين في مصر تختزل هذه المشكلة التي نتحدث عنها، لكن يجب أن نعرف أن هؤلاء خاصة الذي يمثل الجانب الإسلامي السلطة عبر العصور وعبر قرون وعبر دول متعاقبة لها مزرعتها التي تنشئ فيها عقليات معينة وولاءات معينة وأنماط معينة. مزرعة السلطان ينشئ فيها القضاة وينشئ فيها اليوم الإعلاميين وقديماً ينشئ فيها الشعراء، يعني يرتعون باستمرار ويعيشون منذ أن كانوا ربما طلبة، فإذاً هذه هي المشكل الذي علينا نواجهها جميعاً وأهم ما نواجهها به هو أولاً فضحها وتشريحها وبيان براءة الدين منها، وثانياً أن يكون عندنا البديل الذي يملأ الساحة ويملأ الفراغ لأنه حينما يفرغ المكان وتفرغ الساحة ولا علماء يمثلون الشرع وينافحون عن الشرع الناس يرون أن هذا هو الإسلام وهذا هو من يمثل الإسلام وهذه كلمة الله وهذه كلمة رسوله فإذاً أنا أريد أن نلتفت بالمسؤولية ونضعها عن اليمين وعن الشمال. الحاكم كما ذكرت له مزرعته فيها الإعلاميون وفيها الشعراء وفيها القضاة. وفيها ترتع النخبة. عن المزارع، أرى أن العلاقة بين المستبد وبين رجل السلطة وفقيه السلطة هي أشبه بالعلاقة بين التمساح وطائر الزقزاق، يقوم طائر- وهذه العلاقة تسمى علاقة مقايضة أو تقايض- حيث يقوم هذا الطائر بأكل الفتات وبقايا الفضلات من بين أسنان التمساح هذا التمساح هو السلطة والنظام الحاكم المستبد، الذي ينهش جسد الأمة، وهذا فقيه السلطة هو الذي يأكل الفتات وينظف ويمظهر هذا التمساح. طبعاً التمساح لا يؤذيه لأنه يؤدي مهمة، ينظف العوالق من بين أسنان التمساح. زكريا المحرمي: الإشكالية تقع في أن الفقهاء يربطون حقوق الإنسان بالبيان العالمي لحقوق الإنسان في بعض نصوص البيان العالمي لحقوق الإنسان هناك في حديث حول حرية الدين وحرية المرأة في أن تختار زوجها، طبعاً في الفقه الإسلامي التقليدي لا يجوز للمسلم أن يغير دينه في الفقه الإسلامي التقليدي لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج غير المسلم، أنا في تصوري أن هذه مجرد هواجس يجب أن نتعالى عليها يجب أن يكون هناك تأويل عقلاني لنصوص الشريعة لكي تتوافق مع ضغط الواقع، أغلب هذه القضايا في الحقيقة هي لا تمس أصل الشريعة وإنما هي تمس جوانب معينة قابلة للتأويل، ويبدو لي أن هناك آراء قد لا تتعارض حتى مع البيان العالمي لحقوق الإنسان؛ فلهذا أي معارضة لحقوق الإنسان يجب أن تتهم، وأنا في تصوري أي فقيه يتعارض مع حقوق الإنسان ومبادئ حقوق الإنسان هو فقيه ينظّر للسلطة وهو من ضمن قائمة وعاظ السلاطين. أحمد الريسوني: في المجمل وفي الأصول النبيلة لهذه الحقوق فهذا من صميم فطرة الإنسان قبل كل شيء لأن الإسلام جاء مبنياً على الفطرة والله تعالى قال {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}[الروم:30] فالدين القيم منزل على حسب الفطرة وفطرة الإنسان أنها حر طليق ومتى استعبدتم الناس كما قال عمر رضي الله عنه، نعم بعض الشيطنة لهذه الحقوق قد تقع هنا وهناك؛ الآن هناك من يجر بحقوق الإنسان نحو الثورة الجنسية والانفلات الجنسي وهذا ضد الحرية التي قررتها المواثيق الدولية. ولكن هذه الشيطنة ربما تزعج وتخيف، لأن الموقف من حقوق الإنسان عموماً ليس فقط علماء السلطان هم الذين يقفون ضد هذه، هم يقفون ضدها لأنها في النهاية تربك الحاكم الذي هم لا يريدون إرباكه ولكن أيضاً هناك ما يسميه الأستاذ زكريا بالفقه التقليدي هناك الفقهاء جامدون منغلقون يخافون من كل جديد هذا مشكل، هذا مشكل داخلي في الثقافة الإسلامية وفي الثقافة الشرعية بصفة خاصة وهذا دواءه هو التجديد والتدافع المستمر. التوظيف السياسي للدين أحمد الريسوني: الحل هو الوعي كيف نقيد استخدام وتوظيف الدين في الدولة الحديثة، لكن هذا طبعاً معركة رأي ومعركة وعي ومعركة تثقيف، أنا من مدة طويلة دائماً كلما ذكرت العلماء والمجامع الإفتائية ومجامع الرسمية أقول: العالم يجب أن يتحرر من سلطة التمويل وسلطة التعيين لأن الجهة التي تملك التمويل والتعيين تملك النتيجة، وهي التي تحسم، فإذاً نحن لا نتجه مباشرة إلى أي حاكم لكن نتجه إلى العالم، نقول: إذا كنت معيناً إذا كانت الجهة السياسية أو الإدارية أحياناً أو الأمنية هي التي تختار المفتين وهي التي تختار العلماء لمناصب معينة وهي التي تعين أعضاء مجالس الفتوى أو هيئة كبار العلماء أو ما إلى ذلك معناه أن هذا الذي يعين ويمول في النهاية يتحكم في الفتوى التي ستصدر وفي الرأي الذي سيصدر، نحن ندعو بكل بساطة إلى أن العلماء يختارون أنفسهم بأنفسهم؛ يختارون من يرأسهم؛ يختارون هيئتهم؛ يختارون مجلسهم؛ يختارون أعضاء هيئة فتوى؛ يختارون أعضاء مجمع فقهي دولي أو وطني، أليس العلماء أحق من يختار؟ نطالب بهذا ليتحرر حتى فقهاء السلاطين. زكريا المحرمي: أنا في تصوري نحن نحتاج إلى دساتير تحفظ حق المواطن، دساتير قائمة على حقوق الإنسان وعلى القيم الإنسانية العليا التي جاء بها القرآن الكريم، عندما تكون دساتير الدول تحقق وتحمي هذه القيم وهذه الحقوق لن نحتاج لا إلى الفقيه ولن نحتاج إلى أي شخص آخر ممكن أن يمارس علينا تزييفاً للوعي أو توجيهاً لطاعة من لا يستحق الطاعة، فإذاً ينبغي علينا في الحقيقة أن نعمل على الإصلاح السياسي وينبغي علينا كذلك أن نقوم بثورة معرفية كبرى لتجديد فهمنا للدين. لكي نتخلص من تلك المبادئ القائمة على الاستسلام للواقع والرضا بمن ضرب ظهرك وقطع بشرك وأخذ مالك باعتباره الإمام المتغلب. *المادة منقولة بتصرف عن حوار جرى في برنامج "في العمق" الذي تبثه قناة الجزيرة