التكتل الوطني: القصف الإسرائيلي على اليمن انتهاك للسيادة والحوثي شريك في الخراب    بين البصر والبصيرة… مأساة وطن..!!    أكثر من 80 شهيداً وجريحاً جراء العدوان على صنعاء وعمران والحديدة    الجيش الباكستاني يعلن تعرض البلاد لهجوم هندي بعدة صواريخ ويتعهد بالرد    اليمنية تعلق رحلاتها من وإلى مطار صنعاء والمئات يعلقون في الاردن    بامحيمود: نؤيد المطالب المشروعة لأبناء حضرموت ونرفض أي مشاريع خارجة عن الثوابت    الرئيس المشاط: هذا ما ابلغنا به الامريكي؟ ما سيحدث ب «زيارة ترامب»!    الخارجية الإيرانية تدين الهجوم الصهيوني على مطار صنعاء    محمد عبدالسلام يكشف حقيقة الاتفاق مع أمريكا    ترامب يعلن عن ايقاف فوري للعمليات العسكرية في اليمن والمشاط يؤكد ان الرد سيكون مزلزل    صنعاء .. وزارة الصحة تصدر احصائية أولية بضحايا الغارات على ثلاث محافظات    تواصل فعاليات أسبوع المرور العربي في المحافظات المحررة لليوم الثالث    التحالف والشرعية يتحملون مسئولية تدمير طائرات اليمنية    الاضرار التي طالها العدوان في مطار صنعاء وميناء الحديدة    الكهرباء أول اختبار لرئيس الوزراء الجديد وصيف عدن يصب الزيت على النار    سحب سوداء تغطي سماء صنعاء وغارات تستهدف محطات الكهرباء    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 52,615 شهيدا و 118,752 مصابا    البدر: استضافة الكويت لاجتماعات اللجان الخليجية وعمومية الآسيوي حدث رياضي مميز    المجلس الانتقالي وتكرار الفرص الضائعة    الوزير الزعوري: الحرب تسببت في انهيار العملة وتدهور الخدمات.. والحل يبدأ بفك الارتباط الاقتصادي بين صنعاء وعدن    النفط يرتفع أكثر من 1 بالمائة رغم المخاوف بشأن فائض المعروض    رئيس مؤسسة الإسمنت يتفقد جرحى جريمة استهداف مصنع باجل بالحديدة    إنتر ميلان يحشد جماهيره ونجومه السابقين بمواجهة برشلونة    سلسلة غارات على صنعاء وعمران    اسعار المشتقات النفطية في اليمن الثلاثاء – 06 مايو/آيار 2025    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 6 مايو/آيار2025    حكومة مودرن    ريال مدريد يقدم عرضا رمزيا لضم نجم ليفربول    أكاديميي جامعات جنوب يطالبون التحالف بالضغط لصرف رواتبهم وتحسين معيشتهم    تحديد موعد نهاية مدرب الريال    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    ودافة يا بن بريك    انقطاع الكهرباء يتسبب بوفاة زوجين في عدن    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    برشلونة يواجه إنتر وسان جيرمان مع أرسنال والهدف نهائي أبطال أوروبا    قرار رقم 1 للعولقي بإيقاف فروع مصلحة الأراضي (وثيقة)    برعاية من الشيخ راجح باكريت .. مهرجان حات السنوي للمحالبة ينطلق في نسخته السادسة    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    الثقافة توقع اتفاقية تنفيذ مشروع ترميم مباني أثرية ومعالم تاريخية بصنعاء    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    الخليفي والمنتصر يباركان للفريق الكروي الأول تحقيق كأس 4 مايو    وزارة الشباب والرياضة تكرم موظفي الديوان العام ومكتب عدن بمناسبة عيد العمال    مليون لكل لاعب.. مكافأة "خيالية" للأهلي السعودي بعد الفوز بأبطال آسيا    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    قدسية نصوص الشريعة    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    أول النصر صرخة    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    المصلحة الحقيقية    مرض الفشل الكلوي (3)    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رئيسنا السابق يروي مذكراته
نشر في الأهالي نت يوم 28 - 02 - 2015

تظهر الحياة في كثير من الأحيان كأنها فقرات نصية، تشكل كل فقرة جانبًا وجدانيًا من أحداث عشناها في الماضي، تلك الذكريات تظل محبوسة في تلافيف الدماغ وأروقة العقل إلى أن تأتي اللحظة المناسبة للإفراج عنها، وهي اللحظة التي نستمر معها في إعادة تدوير ذكرياتنا وإنتاج أيقونات البهجة التي نحكيها للآخرين بوصفها ذكرياتنا التي لا نزال نعيشها من خلال الاستغراق في تأملها وتفسير مجرياتها على إيقاع الدهشة ونغمة الاعتزاز.
التقاه/ عبدالسلام السياغي
الصحفي الذي قام بتغطية "صلح الحديبية"
في أعجب تغطية صحفية، رأى نفسه فجأة قريبًا من خيام المسلمين بمنطقة الحديبية، الفراغ الزمني الرهيب لم يشكل لديه عائقًا ذهنيًا ولا حتى ظهوره لابسًا البنطلون في الحديبية، هناك كانت خيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يسير في المكان وكأن لديه علمًا مسبقًا بالتضاريس الجغرافية والسياسية على هذه الأرض.
أكثر ما أثار لديه اللهفة أنه كان يتلفت فلا يرى غيره من الصحفيين، قال لنفسه: هذا أكثر من رائع، أنا الآن بصدد خبطة صحفية وسبق عالمي.
أجرى المهمة بشكل سريع، من تحرير المادة حتى الإخراج وكتابة المانشيتات على غلاف الصفحة الأولى، وهناك عند الإخراج وجد نفسه في مأزق.. "رسول الله يصالح قريشا"، كان هذا العنوان الأبرز والمكتوب على رأس الصفحة بالبنط الأحمر العريض.. أخذته قشعريرة عابرة، خاطب نفسه مؤنبًا: هذا العنوان ليس مهنيا ولا محايدا، وصحيفة "الأهالي" (التي كان متفرغا لها حينئذ) صحيفة مستقلة محايدة، ويجب أن يكون العنوان: "محمد يصالح قريشا". جعل يتأمل في العنوان بجهاز الإخراج وهو بجوار المخرج، وراح يقول لنفسه: أي مهنية وأي حياد هذا الذي يجعلك تلغي صفة "رسول الله" وتكتب "محمد" كما يناديه الأعراب وكفار قريش؟ ثم عاد وكتبه: "رسول الله يصالح قريشا".
فكر مليًا وحاول أن يختلق لنفسه منطقًا ملائما للحكم على حالته الراهنة، قال لنفسه: هذه الصحيفة ستوزع في نجد والحجاز والمناطق المجاورة وأكثر هؤلاء لم يؤمنوا بالرسول بعد، وبالتالي فكلمة "رسول الله" تضع حاجزا بينهم وبين الرسالة المطلوب إيصالها من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالأفضل هو "محمد يصالح قريشا"، لكن إيراد اسم الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل مجرد لم يكن مستساغا رغم هذا التخريج.
علق هناك، ازدادت حدة التوتر لديه، استيقظ تدريجيًا وهو يردد العنوانين بصوت مسموع، وبجواره كانت زوجته تضع الكمادات على رأسه لتخفيف الحمى، وما هي إلا لحظات حتى انتبه لحقيقة انتزاعه من مشهد صلح الحديبية، تذكر الهمهمات التي أفاق عليها وسأل زوجته عما إذا كانت قد سمعت شيئًا، أجابته وقد استبدلت سحنة الحزن والقلق بضحكة لا تخلو من الدهشة، وراحت تسرد على مسامعه بعض الهذيان وتفاصيل الحفرة الزمنية التي أوقعته فيها الحمى الشديدة وأوصلته إلى لحظة الإخفاق في تجهيز عنوان يعلي من مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم على حساب المهنية الصحفية وموضوعية النظر إلى كلا الأطراف بتجرد.
كان ذلك في سياق حديثنا عن الأستاذ عبدالملك شمسان المقرمي، الرجل الذي أوكلت إليه الأيام مهمة حمل القلم واقتفاء آثار الكلمات، انتصارًا للأوطان ودفاعًا عن الإنسان، ولا ينسى دائمًا قبل الحديث عن أي إنجاز صحفي الإشارة بعين الرضى والفخر والاعتزاز نحو والده كونه كان معلمه الأول، وما يزال معلمه الأول حتى اللحظة كما يقول. كان والده الذي نشأ يتيمًا قد تعلم القراءة والكتابة وشيء من القرآن في "المعلامة" بالقرية، فكان ذلك المستوى كفيلا بأن يبني عليه مستوى ثقافيا عاليا في مدينة عدن أيام الاستعمار البريطاني وما تلاه من السنوات، خاصة بسبب ارتباطه الوثيق بخاله القاضي العلامة محمد حزام المقرمي.
مواقف وأحداث
ما إن يتذكر عبدالملك أستاذه ومربيه أحمد عبدالملك المقرمي، حتى تجذبه الذكريات نحو لحظات الاهتمام والرعاية الكبيرين اللذين أولاهما المقرمي الأستاذ نحو المقرمي التلميذ، إذ كانت بداية الثانوية بالنسبة لعبدالملك لحظة ترسيخ القدرات وتوثيق المهارات التي لمسها فيه مدير مدرسته الأستاذ أحمد المقرمي الذي تكفل بتزويده بشكل مستمر بالصحف والمجلات المحلية طيلة السنة التي درس فيها عبدالملك الصف الأول الثانوي في قريته النائية.
كل ذلك الاستطراد لا محل له من الإعراب إذا لم يكن مخزون الذكريات لدى شمسان مليئا بالمواقف والاستشهادات يعيد من خلالها إنتاج نفسه بوصفه مبدعا وجديرا أن يستمر على هذا النحو، وهو ما نحن بصدد التأكيد عليه إذ أنه وفي يوم من الأيام شهدت عزلة بني شيبه المجاورة لعزلة المقارمة بتعز، يومًا ثقافيًا مفتوحًا ولم يكن يعلم عبدالملك أن ذلك اليوم سيكون مشهودًا بالنسبة له.
في ذلك اليوم خاض غمار مساجلة شعرية بعد تصفيات كثيرة بقي فيها ممثلًا عن مدرستهم في مقابل ممثل مدرسة بني شيبة التي مثلها أحد أساتذتها والذي كان على مستوى كبير من إجادة الشعر، في مقابل ثقة عبدالملك بنفسه ومحاولته ملاحقة الأبيات الشعرية المتناثرة في مساحة الذاكرة لديه، وفي الوقت الذي لم يكن فيه على نفس المستوى من إجادة الشعر، أسعفته موهبته في الحفظ وسرعة التذكر.
في ذلك اليوم من الصف الأول الثانوي كان أستاذه أحمد عبدالملك قد عمد من غير أن يشعره إلى حيلة لغوية تحسبًا لأي سقوط مفاجئ له أمام خصمه الأستاذ المؤهل، قال المقرمي الكبير للمقرمي الصغير:
تفهم في المساجلات، صح؟
أومأ عبدالملك برأسه في إشارة إلى تمرسه على ذلك النوع من المسابقات الثقافية، بعدها أشار عليه المدير أنه في حال كانت القافية ميمًا، فقل هذا البيت الطريف والغريب:
مررت بعطار يدق قرنفلًا *** ومسكًا وكافورًا فقلت له....
ثم توقف المدير وأحلَّ مكان الكلمة الأخيرة حركة تشير إلى الشهيق كناية عن شم القرنفل. والمعنى: استبدال الكلمة الأخيرة بحركة صوتية لا علاقة لها بالحروف والقافية. ثم واصل قراءة البيت:
فقال لي العطار رد قرنفلي *** ومسكي وكافوري فقلت له .....
وأورد حركة أخرى كناية عن الزفير.
كان الغرض من تلك الحركة إحداث بلبلة لدى لجنة التحكيم للوصول إلى لحظة المساواة بين الطرفين، أو هكذا فهم الأمر عبدالملك، لكن الذي حدث أن صاحبنا نسي تمامًا ذلك البيت الشعري ولم يتذكر منه شيئا ومضى في المسابقة حتى أعلنت اللجنة فوزه الذي أذهل عبدالملك نفسه وحصل فيه من أستاذه على جائزة يصفها بأنها كانت جائزة قيمة جدا ولا ينساها، وهي "حبة شيكليت" كانت في جيب الأستاذ!!
نون وما يسطرون
تأتي فترة الثانوية مليئة بطموح كبير لدى الإنسان، ويتذكر عبدالملك شمسان أنه إضافة للعديد من الموارد الثقافية التي عرفها كان أيضًا متيمًا بحضور حلقات الذكر الصوفية التي كانت تستهويه وقام بملاحقة العديد منها في صنعاء والحديدة، وقرأ العديد من كتب الصوفية كان أبرزها كتاب "احياء علوم الدين"، جوانب تعليميه أخرى عايشها واستفاد منها كثيرًا من خلال ملازمته لدروس المرحوم الحاج سعيد فارع أحد أساتذته الأفاضل وأحد وجهاء المنطقة.
كما أن ذاكرة عبدالملك شمسان لم تخنه وهو يسرد طبيعة المقيل اليومي لدى عمه الشيخ أحمد حزام المقرمي، الذي كان يحضره صاحبنا مع أبناء قريته إذ كان أشبه بمنتدى ثقافي يومي يجمع عدة علوم ما بين النحو والأدب وغيرها من العلوم.
يتذكر عبدالملك موقفا مع عمه أحمد، قال: كنت في أحد الأيام ذاهبًا للعب الكرة، ومررت بديوان عمي أحمد حزام لظني أنني سأجد الشباب هناك كما هو الحال يوميًا، فاصطدمت عند دخولي بعدم وجود أحد باستثنائه هو، وكنت أحمل في يدي كرة القدم وفي الأخرى ديوان أحمد شوقي "الشوقيات"، وما إن رأى الكتاب في يدي حتى بادرني بالقول: اقرأ "ريمٌ على القاع بين البان والعلم".
يقول عبدالملك: كنت أعرف أنني لو جلست للقراءة لن أستطيع المغادرة إلا متأخرًا في المساء، وكنت مستعجلًا بسبب المباراة، فقلت له متلعثمًا وأقدامي تجرني للخارج: عم أحمد أنا فدى لك باروح وبارجع.
يقول عبدالملك: تخلصت من الإحراج في ذلك الموقف، وانطلقت وصوته يلحق بي:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما **** والماء فوق ظهورها محمولُ
كل تلك العوامل في حياة عبدالملك كانت كافية لإقناعه بالإمساك بالقلم ومحاولة الكتابة عن أي أمر وفي أي موضوع، ومما علق بذاكرته في تلك الفترة مقال يتيم قرأه غيبا في إحدى الفعاليات، ثم طلبه منه الأستاذ أحمد عبدالملك مكتوبا لنشره في إحدى الصحف، وكانت لهفة عبدالملك للكتابة قد دفعته لكتابة وحفظ المقال الذي لم ينشر لاحقًا بسبب تغيب الأستاذ خارج القرية وضياع الورقة التي كتب فيها المقال.
إلا أنه وفي فترة نهاية الثانوية وبداية الجامعة وهي المرحلة التي عمل فيها مع والده بصنعاء في محل بشارع جمال كان يراود صحيفتي الثورة والوحدة عن نفسيهما لعله يحظى بمتعة ظهور اسمه على صفحاتهما، وكان يرسل لهما عن طريق الفاكس مقالات متعثرة التفاؤل، إذ كان يعتقد وهو الذي لم يصافح اسمه إحدى الصفحات، أنه في حال تم نشر المقال فلن يعلم بذلك لانعدام التواصل بينه وبين الصحيفة المرسل إليها، ولعدم معرفته باليوم الذي تم نشره فيه، وهكذا ظل على ذلك التفاؤل طمعًا في التخلص من مذاق الخيبة الذي جربه سابقًا في التحقيق الصحفي الخاص باللوكندة الذي شهد لحظة فشلة.
إلا أكبر إشادة حصل عليها من وراء الكتابة جاءت في مقيل عابر في سنوات الدراسة الأخيرة بعد أن نشر له مقال في الثورة تكلم عن قضية جوهرية في علاقة الإنسان بعمله ملخصها أن "من لم يحمل هم العمل تحمل هموم الفراغ"، وكان ذلك بعد أن عمل مدرسًا في مدرسة أهلية لمدة عشرين يومًا كانت ثقيلة عليه لأنه لا يطيق التدريس، بعدها قام بإرسال المقال سالف الذكر للنشر في الثورة، وما إن نشر حتى احتفى به أمام الحاضرين في ذلك المقيل الممتلئ بالأكاديميين والمثقفين.
حكاية أعظم إنجاز ثقافي
كان عبدالملك يرغب في الالتحاق بسلك الجندية في سنة الخدمة العسكرية بعد الثانوية، لكنه اتجه إجباريا إلى التدريس لأن معدله كان أعلى من معدلات التجنيد، وقذفت به وزارة التربية في منطقة خمر بمحافظة صنعاء آنذاك.
في تلك الفترة وجد عبدالملك فسحة كبيرة من الوقت للتفكير في إكمال مشروعه الثقافي المتميز، فعادت به الذكريات إلى لحظة اتخاذ أول قرار لإنجاز ذلك المشروع المتعلق بجمع وحصر الأمثال والحكم ومفردات اللغة واللهجة المستخدمة لدى كبار السن في قريته والقرى المجاورة لها، وكان لذلك حكاية آن أوان سردها:
ذات يوم من أيام الصف الأول الثانوي كان مقيلا في بيت عمه وفي المجلس جلس بجواره رجل كبير يشار من هيأته بصفة "بتول" وهو الشخص المعني بحرث الأرض بمعية الأثوار، وكانت هيئة الرجل غير معتادة بالنسبة لعبدالملك، وهو ما كان مدعاة للفت نظره وانتباهه والدخول مع ذلك الشخص في حديث مطول، لا سيما وأن الجو في الخارج كان ممطرًا، الأمر الذي منع ذلك الرجل من الخروج لإكمال حرث الأرض، وهي الفرصة التي اغتنمها عبدالملك للاستطراد في الحديث عن تفاصيل حياة شخص ذي هيئة وسمت شعبي مختلف عن الكثير ممن عرفهم عبدالملك.
لم تكن تلك الهيئة هي ما شد انتباه عبدالملك بقدر ما أثار دهشته المفردات التي كان يستخدمها والأمثال الكثيرة التي لم يسمع عنها.
أدرك مدى الفجوة الثقافية الكبيرة بين جيله والأجيال السابقة التي تحمل في وجدانها كنوزا ثقافية وركاما هائلا من القصص والحكايات والأمثال والحكم والمفردات، وهي تضيع تدريجيًا بفعل عوامل التصحر الثقافي وعدم الالتفات إلى ربط الأجيال ببعضها بوشائج المعرفة والتوثيق المستمر كما هو حال الأمم الواعية لهذا الأمر.
استدعت تلك الحادثة الضمير الغائب لدى عبدالملك شمسان، وعادت به الذكريات إلى السنوات التي عاشها في السعودية والتي عرف فيها الكثير من أمهات الكتب، فقام من فوره وشد مئزره وابتدر نفسه لكتابة معجم خاص بتلك الأمثال والحكم والمفردات والعادات والتقاليد وما إلى ذلك، ومن تلك اللحظة قام بشراء دفتر كبير للتدوين وتوالت عليه الأيام في قريته وهو يطرق أبواب جداته وخالاته وعماته وبيوت العديد من أقاربه بحثًا عن ذلك الكنز الثقافي، وكان يكتب على نحو شامل ما يتعلق بحياة أبناء الأجيال السابقة في تلك المنطقة من حيث المسكن والملبس والأدوات المستخدمة ومعالم الزراعة والأهاجيل والأهازيج المصاحبة للعمل في الحقول والأودية، والعادات والتقاليد في المناسبات والأعياد...إلخ، ولم تمض عليه أيام معدودة حتى امتلأت دفاتره وشعر أنه قد غرق في بحر، فالتزم الصمت معولًا على الزمن وأخفى دفاتره خلف أدوات الشرط وعلامات التعجب.
وعند أول نقطة عبور نحو المستقبل استيقظ ضميره، وأخرج أمنياته من تابوت التحنيط وشرع في إعداد المعجم من جديد، كان ذلك مع بداية دراسته الجامعية بكلية الإعلام الدفعة الرابعة، إذ جاءت لحظة عابرة كان يبحث أثناءها عن بعض الأوراق فإذا به يتسمر أمام بعض الأوراق التي عادت به عدة سنوات للوراء إلى أيام حماسه الملتهب لإكمال معجم المفردات سالف الذكر، ووجد في إحدى الأوراق قرابة الخمسين مثلا شعبيا دوّنها مشافهة من أفواه كبار السن في قريته، فحز ذلك في نفسه وقرر مواصلة المشروع من جديد، ووضع لنفسه منهجية جديدة تمثلت في تقسيم المواد المطلوب جمعها وبدأ بجمع الأمثال والحكم وأجل البقية إلى لحظة عبور زمني أخرى.
تزامن ذلك مع مناسبة سعيدة اشرأب عنقه لها، إذ أخذت الأقدار بيده وألقته في القفص الذهبي، وكانت الأشهر المعدودة التي قضاها في البلاد بعد الزواج حافزًا له للبداية من جديد في مشروع جمع المفردات، فبدأ الرحلة مجددًا بحثًا عن كبار السن من المزارعين والرعية رجالاً ونساءً، وكانت متعة الاستحواذ على أبسط معلومة تتغلب على شعوره بالحنق والمرارة من ضخامة المجهود الذي يبذله بوسيلة لا تتجاوز قلم مداد.
لم يقتصر نشاطه على جمع المعلومات من أبناء القرية بل تجاوز ذلك إلى المطالعة المستمرة للعديد من الكتب ذات العلاقة، وكانت أهمية الموضوع بالنسبة له قد ألجأته لعمل منهجية منطقية للعمل في ذلك المشروع تمثلت في عدة جوانب أهمها تحديد النطاق الجغرافي المتمثل بالقرية محل البحث فقط، على اعتبار الاشتراك الموجود لدى مختلف المناطق في اليمن في تلك الحكم والمفردات بأساليب ولهجات متقاربة، وثانيها الالتزام بشروط صارمة في نقل المفردات والأمثال والحكم عن الآخرين، تلك الشروط اقتبسها عبدالملك ضمنيًا من خلال دراسته السابقة لكتب الفقه والحديث والتي تتعلق بالإسناد وقبول الرواية من عدمها، إذ كان مدار اهتمامه يقتصر فقط على قبول الأمثال والحكم والمفردات من كبار السن المتواجدين باستمرار في نفس القرية والذين لم يتعلموا ولم يعملوا في مناطق حضرية أخرى، بحيث تكون اللهجة خالصة من دون أي تداخل في الألفاظ وتركيبها مع المناطق الحضرية المتأثرة ببيئات ثقافية غير يمنية، مثل مدينة عدن وغيرها من المدن.
تمخضت جهوده عن جمع أكثر من خمسة آلاف مثل وحكمة شعبية من منطقة محدودة، وقام لاحقًا بتجهيز ذلك المشروع في كتاب لا يزال يأمل أن تتيسر له طباعته رغم أنه جاهز منذ نحو 13 عاما.
تجربة فاشلة مع مهنة الإخراج
في فترة الجامعة كان عبدالملك قد أدمن كتابة الهواجس في دفاتر لا يزال يحتفظ بها إلى اليوم، كان يكتب بغرض الكتابة فقط وليس لغرض النشر، ولاحقًا قام عن طريق زميله الصحفي مجلي الصمدي بنشر مجموعة من تلك الهواجس في صحيفة الثورة.
دخل كلية الآداب قسم الإعلام ثم تحولت إلى كلية لاحقًا، وبدأ حياته مع الصحافة.
شكلت مرحلة الجامعة نقلة نوعية في صقل موهبته الصحفية وعلى الرغم من تطلعاته تلك إلا أن أنفاسه كانت مشدودة للحاق بالتلفزيون والعمل كمخرج في المجال السينمائي وهي الهواية التي تخلقت لديه أثناء الدراسة الجامعية، لكن تلك الهواية اصطدمت بصخرة الواقع الكئيب فاتجه نحو الإخراج الدرامي التلفزيوني، تلك الرغبة بدأت لديه وهو لا يزال طالبًا في الإعلام، وهو ما تسنى له لاحقًا بعد كد وملاحقة مستمرة للقائمين على التوظيف بقطاع التلفزيون، إلا أنه اكتشف لاحقًا أن أكثر ما يدمر الأحلام والتطلعات هو الروتين الرسمي والوساطة والمحسوبية، وهو ما دفعه لاحقًا للعودة لمجال الكتابة الصحفية والعمل مع أكثر من صحيفة، كان ذلك مع مطلع العام 2003م، وكانت بداياته الأولى مع صحيفة الأفق الإعلانية الثقافية ومشاركات متفرقة مع صحيفة الناس، بعدها انتقل محررًا ثم مديراً للتحرير بصحيفة العاصمة بعدها ابتدأ مشواره مع صحيفة الأهالي منذ العام 2007م، وعمل فيها محررًا حتى تولى رئاسة تحريرها.
*عن أسبوعية الأهالي
*الحلقة الأخيرة
... لمتابعة الحلقة الأولى اضغط هنا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.