في حياة كل إنسان هناك لحظات فارقة، وقصة مستمرة تختزل الحياة في مشاهد متعددة وظروف مختلفة، وأجمل الذكريات هي التي تجذبنا لقراءة الفصول الأولى من حياتنا من خلال نافذة زمنية نرى أنفسنا فيها مجدداً في أجواء القرية وصخب المدرسة وروحانية المسجد وضجيج المدينة. التقاه: عبدالسلام السياغي تبدأ قصتنا مع (الطفل) رشاد رشاد علي مسعد الشرعبي، (مواليد 1975م) الفتى ذو الأربعة أعوام، وهو متكئ على جدار المعلامة في قريته (الأكروف- شرعب السلام- محافظة تعز) وأمامه يجلس فقيه القرية على رصيف من الأحجار يعلم الأطفال القرآن الكريم، وقواعد القراءة والكتابة. عامان كاملان قضاهما رشاد وهو يتذوق سحر اللغة العربية ويرتشف روعة القرآن، وهو الأمر الذي أمده بالزاد المعرفي عند أول خطواته في الابتدائية، لم يدخل الصف الأول الابتدائي إلا وهو يحفظ جزأين ونصف من القرآن الكريم ويتقن القراءة والكتابة تمامًا. أثناء الإجازات الدراسية الأسبوعية والسنوية، كان رشاد يختلس من أوقاته ما يكفي لزيارة "المعلامة" والجلوس بين يدي الفقيه مجدداً، لأنه يدرك جيداً أن حياته المعرفية لن تكون إلا بالعودة إلى لحظة "أبجد هوز" التي ارتشف معينها ابتداءً من ذلك المكان. في السنوات اللاحقة وتحديداً في الخامس الابتدائي، التحق رشاد بمدارس تحفيظ القرآن التابعة للمعاهد العلمية آنذاك، وكان ذلك رافدًا له لصقل موهبته في القراءة المبكرة التي أوصلته إلى أولى صفحات مجلة "ماجد" للأطفال، التي شُغف بها وجعلته يتحين الفرص للدخول إلى مدينة تعز لشراء مجلات الأطفال فقط، ثم العودة إلى القرية. في تلك الفترة لم تقتصر هوايات رشاد على القراءة وتلوين الأشكال "البائسة" في مجلات الأطفال، بل كان من الأطفال الذين دقت أقدامهم خشبة المسرح ومصطبة الإذاعة المدرسية مشاركًا ومديرًا لأنشطة مدرسية ذات طابع ثقافي متعدد المشاهد تنقل خلالها من مقدمة الصف حيث الشعور بكاريزما طفل في نهاية الابتدائية إلى مؤخرة الصف في فرقة إنشادية لم تتجاوب معها حنجرة رشاد العاجزة عن صعود السلم الموسيقي على نحو متناغم، كان ذلك أثناء انتقاله لاحقًا لدراسة الإعدادية في معهد "تعز العلمي". محاسن الصدف أحمد نصر مرشد، أستاذٌ قدير يرفع له رشاد الشرعبي قبعته كلما عادت به الذكريات إلى منتصف الثمانينات التي شهدت بداية انطلاق صحيفة "الصحوة" التي عرفها رشاد من خلال أستاذه سالف الذكر. من جهة ثانية عرف رشاد في تلك الفترة مجلة "المجتمع" الكويتية، وكان لهذه الأخيرة مع "الصحوة" قصب السبق في إقحامه في عالم الصحافة، مبتدءاً بالصحوة ومنتهيًا بالمجتمع التي لا يزال يكتب فيها إلى اليوم. بائع الجرائد مع بداية الإعدادية، كان رشاد الشرعبي قد استوطن مدينة تعز طالبًا ومقيمًا في السكن الداخلي لمعهد "تعز العلمي" الكائن بشارع المصلى. بدأ رشاد بتكوين أجندته الخاصة والتطلع إلى المستقبل الذي أوصله إلى لحظة كتابة هذه السطور، إلا أن العائق المادي كان التحدي الأكبر الذي أسبغ عليه لاحقًا صفة المثقف وهو لما ينسى بعد لحظات بريُ الأقلام في سنوات الابتدائية. كان ذلك من خلال قراءته المنتظمة للصحوة، الصحيفة، سيرًا على الأقدام أثناء زياراته المستمرة للعديد من أسواق ومساجد مدينة تعز للقيام بمهمة بيع الصحيفة لحساب مكتبة "دار السلام". وإذا كان للأقدار أن تلتقي فلن تتجاوز دهشة رشاد أثناء استطراده في الحديث عن الصحفي والشاعر عبدالغني المقرمي، الذي عرفه مرتين الأولى أثناء عمل الأخير بمكتبة السلام والثانية أثناء عمله مديرًا لتحرير "الصحوة". لحظات العمل تلك وفرت للشرعبي رشاد مكسبًا ضئيلاً ينفق من خلاله على شراء الكتب والمجلات والأشرطة الدينية، ذلك النمط من الحياة عرفه رشاد ومجموعة من زملائه الذين لم يتخيل البعض منهم أن بضاعة الكلمات التي باعوها صغارًا ستضعهم على عتبة الشهرة كبارًا. إلا أن ذلك العمل المؤقت لم يشغل رشاد عن شغفه القديم بمتابعة مجلات الأطفال، كان قد وسع دائرة اقتنائه متجاوزًا مجلة "ماجد" إلى "ميكي، أورى"، إضافة إلى ذلك كان متابعًا جيدا ليومية "الجمهورية". الوحدة والانفتاح ما لا يعرفه الكثير عن رشاد الشرعبي، وهو الصحفي الأكثر التصاقاً بالأحداث السياسية اليوم، أنه دخل السياسة من نافذة "رجل المستحيل" وهي سلسلة الروايات الأشهر في عقد التسعينات لرجل المخابرات المصري "أدهم صبري"، كان ذلك بالنسبة لرشاد متزامنًا مع دخوله مرحلة الثانوية، وهي المرحلة التي انفتح فيها على قراءات موسعة في اتجاهات فكرية مختلفة متجاوزًا بذلك القراءة التقليدية التي صقلت أفكاره ووجهت مداركه منذ أن التحق طواعية بالتيار الإسلامي ذو النكهة السياسية. لم يتوقف رشاد عند الصحوة والإرشاد والمجتمع، بل تجاوز الجمهورية الحكومية نحو صحف أخرى كصوت العمال والمستقبل، وهما الصحيفتان الناطقتان باسم اليسار. كان ذلك المناخ الثقافي أحد أبرز العوامل التي اعتمد عليها صاحبنا في تكوين مكتبته الخاصة التي ابتدأت بدفاتر اقتناها لكتابة الخواطر المتفرقة شأنه في ذلك شأن العديد من الطلاب الذين يتعاطون الثقافة من خلال ترحيل "شخابيط" وكلمات متنافرة نحو المستقبل الذي قدمهم للمجتمع بوصفهم قامات صحفية فائقة الأداء. إلا أن بداية رشاد مع المكتبة الخاصة به كانت امتداداً لفترة الإعدادية التي ساهم فيها كثيرًا في إعداد المجلات الحائطية في المدارس والمساجد التي تعلم فيها آنذاك. شخصيات وصحف كثير من الشخصيات والكتاب الذين مروا في خاطر رشاد، في فترة الثانوية، ابتداءً "بوخز الضمير" وهو العمود الأشهر للأستاذ علي الواسعي في الصحوة، ومروراً بأحمد الشرعبي في الميثاق، وانتهاءً بمقالات عبدالحبيب سالم، في صوت العمال، وكان الارتباط بمقالات الأخير قوي من جهة رشاد إذ أنه كان معجبًا بأسلوبه القوى في طرح القضايا ومناقشتها، بل إن رشاد كان مقتنعًا بالكثير من أطروحات عبدالحبيب سالم، فيما يتعلق بتقويض المراكز المقدسة التي تحتكر الدين والسلطة، والحضور الطاغي للقبيلة الذي غلب على حضور مؤسسات الدولة، والشخصنة عند علي عبدالله صالح، وكانت تلك القناعات غير مستغربة من رشاد، لأنه في الأساس له ارتباط غير مباشر باليسار والنظرية الاشتراكية وذلك على خلفية انتماء الكثير من أفراد أسرته لتلك النظرية في تلك الفترة. لكن التصادم غير المباشر مع عبدالحبيب سالم، والنظرية الاشتراكية عموماً من جهة رشاد جاء متزامناً مع إعلان الانفصال من طرف الحزب الاشتراكي في ذروة الأزمة في 1994م، إذ أن الوحدة بالنسبة لرشاد خط أحمر، وكان من غير المعقول أن يستمر بقبول أي أفكار منقولة عن اليسار في الوقت الذي يسعى فيه الحزب الاشتراكي لتقسيم الوطن. ويضيف رشاد قائلاً أنه استغرب كثيرًا من اعلان الانفصال من طرف الاشتراكي الذي كان يربي أفراده على حب الوحدة والانتماء لليمن الموحد، ولأجل ذلك فقد قطع رشاد الحضور الفكري في المناخات الثقافية التي كان يوفرها الاشتراكي آنذاك، لأنه رأى في إعلان الانفصال خيانة من الحزب لأهدافه ومبادئه، التي تربى على الكثير منها، والتي لم تكن تتعارض مع انتماء رشاد لحزب الإصلاح آنذاك. كما أن رشاد قام بمتابعة صحيفة الوحدة بصورة مستمرة في ذروة الأزمة السياسية التي سبقت حرب الإنفصال في 1994م. لم تقتصر متابعته لها بل قام بأرشفتها في تلك الفترة بصورة منتظمة، وكان إعجابه بالصحيفة نابع من تنوع مناخها الفكري الذي يبدأ بكتاب وصحفيين من التيارات الإسلامية وينتهي بآخرين من الاتجاهات اليسارية والاشتراكية. مجلة ماجد للأطفال علاقة رشاد بالصحف ابتدأت بمحاولاته المستميتة مع مجلة "ماجد" التي سكنت وجدانه إبان طفولته، حيث أعيته الحيلة لمحاولة الحصول على بطاقة مندوب، ونشر مشاركات مرسلة منه للمجلة لغرض نشرها كحال المئات من أطفال الوطن العربي، لكن محاولته أوصلته فقط لنشر اسمه في عمود الاعتذار للمشاركات التي لم تنشر، لاحقًا حاول نشر مساهمات متفرقة لدى صحيفة الجمهورية، دون فائدة، لكن ذلك لم يمنعه من الكفر باليأس وأعانه على تسلق سلم الأمل الذي وصل من خلاله إلى لحظة إطلالته المعهودة على قنوات النايل سات. قصيدة يتيمة لم تتفتق قريحة رشاد الشرعبي طوال رحلته في عالم الصحافة والثقافة والأدب إلا عن قصيدة واحدة كتبها مقتنعاً ثم تبرأ منها مقتنعاً، كتبها بناءً على املاءات وجدانية جاءت متزامنة مع فترة انتهاء حرب 1994م، ونشرت في بريد القراء في صحيفة 22مايو، وكان مضمونها بعد الحديث عن انتصار 7 يوليو 1994م، والارتباط بالوحدة الإشادة بالرئيس السابق علي عبدالله صالح، كانت المرة الأولى التي مدح فيها الرجل ذاته، وهو الخطأ القديم الذي ارتكبه رشاد وندم عليه، فحاول نسيانه والتبرؤ منه. رشاد لم تعكر صفو ذهنه تقلبات المزاج في ظروف مناخية ذات طابع سياسي وثقافي مختلف، إلا أنه لاحقًا قام بالتبرؤ من القصيدة التي كانت نتاجًا لبنات أفكاره، جاء ذلك في مقال كتبه في صحيفة الثوري في فترة سبقت انتخابات عام 2006م. فاصل ونواصل حديث الذكريات لم ينته لكن محطتنا في جزئها الأول شارفت على الرحيل، على أمل أن نواصل السرد عن الأستاذ رشاد الشرعبي، في العدد القادم لكي نصل إلى محطات أكثر إثارة في حياته. سنتعرف مثلاً عن دوافعه في الاستيلاء على اثنين توائر شيول وإحراقه عنوة أمام الناس في قريته، وسنتعرف كذلك على مقدرة رشاد في التوفيق بين دراسة تخصصين مختلفين في نفس الوقت، وما العلاقة التي ربطت رشاد بالأستاذ المرحوم عبدالملك الشيباني. *عن أسبوعية الأهالي ...الحلقة الأولى