أيوب التميمي "يُروى أن أعمى كان عنيدًا، لا يسمع نصائح الناس له عندما يسير في الطرقات بخطى الواثق، وكأنه من المبصرين. ونتيجة لعناده، كان دائمًا ما يقع إما في حفرة أو على جرف، أو بين الأشواك، أو يصطدم بجدار أو حجر أو شجرة، حتى أصبح جسده مثخنًا بالجراح. وذات يوم، كان يسير في وادٍ فيه بئر عميقة لا حماية لها، وكان الأعمى يتجه نحوها. أخذ الناس يصيحون ويحذرونه من الوقوع فيها، قائلين: "البئر يا بصير! البئر يا بصير!" لكنه لم يُعر كلامهم أي اهتمام، ولم يشأ أن يسمع لهم كعادته، حتى سقط في البئر ميتًا"الإنسان موقف" هذه القصة تختصر بدقة ما يحدث حين تتحول القيادة السياسية إلى فعل عناد يتجاهل الصوت المجتمعي، ويتعامى عن مؤشرات الانهيار. فالأعمى في الحكاية ليس من فقد البصر، بل من يدّعي امتلاك الرؤية، وهو في الحقيقة يسير في الظلام، رافضًا النصح، منكفئًا على ذاته، مغرورًا بخطاه. في اليمن، تجلت هذه الحكاية أكثر من مرة. نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح رفض الاستماع للتحذيرات المتكررة من القوى الوطنية طوال حكمه ،من خطر التمادي في الفساد، وتهميش القوى الاجتماعية، والتلاعب بمسار التغيير. وحين اندلعت ثورة 2011، اعتقد أن بإمكانه تجاوزها بالوعود والمناورات، لكنه لم يُدرك أن الأرض كانت قد زُلزلت تحت قدميه. وبدلًا من أن يتعامل مع الثورة باعتبارها فرصة للإصلاح، واجهها بالقمع والانقسام، فسقط عن الحكم بعد أن أُنهك النظام داخليًا وخارجيًا. لكن القصة لم تنتهِ هنا. فالقوى السياسية التي تسابقت على الغنيمة بعد سقوط النظام، وقعت بدورها في فخ العناد ذاته، واستعجلت تقاسم السلطة قبل بناء أسسها. ثم جاءت جماعة أنصار الله، التي رفعت شعار "محاربة الفساد" لتصل إلى الحكم، لكنها مارست ما هو أدهى من الفساد: الإقصاء، والاستحواذ، والتهميش للآخرين… جميع هذه الأطراف تجاهلت التحذيرات، واستهانت بالأصوات التي قالت: لا تسيروا نحو الهاوية. فكانت النتيجة أن سقطت البلاد في حرب طاحنة، وصار الوطن كله بئرًا لا قاع لها. وفي أماكن أخرى من العالم العربي، تكررت القصة بحذافيرها: أنظمة ظنّت أن القبضة الأمنية كافية، ومعارضات استبدلت رؤوس الطغاة برؤوس أخرى دون أن تغيّر القواعد، وأصوات العقل كانت دائمًا تُقابل بالاتهام أو التجاهل أو الإقصاء. القيادة ليست في الثبات على المسار الخاطئ، بل في الشجاعة على تغييره. وليست في الادعاء بالمعرفة، بل في الإصغاء، والمراجعة، والتواضع أمام تعقيدات المشهد والمؤامرات التي تُحاك من حوله. فكم من "بصير" سقط، وكم من "بئر" ابتلعت أحلام شعوب بأكملها، فقط لأن من في موقع القرار ظنّ نفسه يرى، بينما كان يسير في ظلمة العناد. فالعبرة ليست فقط في من سقط، بل فيمن لا يزال يكرر نفس الخطى. في اليمن، كما في غيرها، لا نحتاج مزيدًا من الدماء كي ندرك أن طريق العناد لا يؤدي إلى الدولة، بل إلى الدمار. من أراد أن يحكم، فليسمع. ومن أراد أن ينجو، فليُبصر. أما من يُصرّ على أن يكون "بصيرًا" وهو لا يرى، فليس له من مصير سوى السقوط في البئر… ومعه يسقط الجميع… {والله غالب على أمره}