تمتد الحياة إلى الوراء كشريط سينمائي متداخل الأحداث، تختزل حياة إنسان واحد في لحظات تفصح عنها دهشة إعادة إنتاج الماضي في صورة ذهنية مجردة. في سياق الزمن الفيزيائي تعود بنا الذكريات إلى أبعاد غير مألوفة لكي نكمل محطات الدهشة مع الأستاذ سعيد ثابت، مدير مكتب قناة "الجزيرة" وكيل أول نقابة الصحفيين اليمنيين، الذي تكفل بالإفراج عن ذكرياته المسجونة. التقاه بمكتبه: عبدالسلام السياغي المقال الأول مع مطلع العام 1985م، نشط الإسلاميون في اليمن الشمالي وتوجهوا نحو الإعلام وكانت أولى أدواتهم صحيفة (الصحوة) التي كان يرأس تحريرها آنذاك الأستاذ محمد اليدومي، ومنذ العدد الأول وصل صداها إلى تعز حيث كان سعيد لا يزال يذرع منطقة التربة جيئة وذهاباً في محاولة لتعميق تجربته في الشمال بعد النزوح القسري من عدن. مع إطلالة العدد الأول من (الصحوة) قام سعيد بمواكبة ذلك الحدث "الهام والجديد" بالنسبة له، وبدأ بدراسته والاهتمام به ومحاولة الاستفادة منه من أجل استعادة موهبته القديمة في الكتابة، وقد شكل له ذلك الحدث زخما كبيراً أثرى مشاعره وأعانه على صقل قلمه للكتابة من جديد في مرحلة عمرية تعد مبكرة بالنسبة لشاب مثله. في تلك الفترة قام سعيد بكتابة مقال ذي طابع أدبي انتقادي لنظام المنجل والمطرقة والنظرية الاشتراكية المسيطرة في الجنوب، أرسل المقال بريديا على عنوان الصحيفة على أمل أن يتم نشره في بريد القراء كحال مقالين سابقين نشرا في (14 أكتوبر) وآخر في (الجمهورية). وصل المقال إلى (الصحوة) ليتجاوز صفحة "بريد القراء" ويحتل مكانة لائقة في الصفحة الرابعة، وأخذ عناية جيدة تجلت بعمل رسم تعبيري مناسب. لاحقًا حكى زملاء سعيد في (الصحوة) عن إعجابهم بالمقال واستشعارهم لمكانة صاحبه، ذلك المقال المكتوب بنكهة عاطفية تخاطب الأهل البعيدين وراء أسوار التشطير، كان له مفعول السحر لدى من يقرأه وهو ما هيأ لسعيد المكانة التي تبوأها لاحقًا. يقول إنه عندما أرسل المقال الأول ظل يترقب الصحيفة على أحر من الجمر، وبعد ثلاثة أسابيع جاء البشير – كعادته– وألقى على وجهه الصفحة التي فيها مقاله، نسمات جياشة من المشاعر دفعته إلى الإسراع بشراء عدة نسخ من الصحيفة تجاوزت الخمسة عشر نسخة، كان ثمن النسخة يومها لا يتجاوز ثلاثة ريالات، على حد ذاكرته، ورغم أن المبلغ كان كبيرا بالنسبة لطالب لم يتخط عتبة الثانوية بعد، إلا أنه تجشم عناء الاقتراض وتدبير المبلغ وشراء النسخ لتوزيعها على زملائه وأصدقائه كنوع من إثبات الذات والاحتفاء بإنجاز رآه صاحبه كبيرًا. كاتب وليس صحفي ثمة اعتقادات خاطئة قد يدرك الإنسان مرارة الوقوع فيها بعد أن تكتمل لديه مرحلة النضوج الذهني والإدراك المعرفي. من ذلك أن سعيد ثابت وأثناء اختلاج مشاعره بمقالين متميزين لدى (الصحوة) إضافة ل"شطحاته الشعرية" وكتاباته المركونة في بريد القراء في الصحيفتين المشار إليهما، ظن أنه قد أصبح كاتبًا كبيرا. تعامل سعيد يومها ككاتب وهو ما أدرك خطأه في لحظة جريان سياق هذه الذكريات على لسانه، إذ أن الحقيقة من وجهة نظره اليوم أن كاتب المقال لا يعد صحفيا بمفهوم المهنة، فكاتب المقال يظل كاتبًا، والصحافة غير ذلك تماما، فالصحفي له وسائله وأدواته المترامية الأطراف ما بين الخبر والمعلومة والتقرير والتحقيق والمقابلة، وكافة فنون العمل الصحفي. لا بد من صنعاء كان لزامًا على سعيد أن يسافر إلى صنعاء، ليس لرغبته في لقاء طاقم الصحيفة وحسب، بل لأداء خدمة التجنيد الإلزامي بعد إكماله المرحلة الثانوية (القسم العلمي)، وهو ما كان، ما إن حطت قدماه على أرض فرزة تعز حتى يمم وجهه غربا حيث مقر (الصحوة) الذي كان آنذاك في شارع جمال القريب من ميدان التحرير، وتزامن وصوله مع وصول تقنية جديدة في الإخراج الصحفي تمثلت في تغيير الطريقة التقليدية لمونتاج الصحف إلى طريقة التحميض على أوراق طباعية خاصة، وكان ذلك التطور عامل دهشة لدى سعيد المفتون بصنعاء وساكنيها. في الصحيفة التقى بالشخصيات التي تحولت لاحقًا إلى أقلاما ذائعة الصيت، ومن تلك الشخصيات الأستاذ ناصر يحيى، الذي يعتبره سعيد أستاذه المباشر، إذ أنه من أوائل من شجعه على الانتظام في سلك الصحافة، والأستاذ نصر طه مصطفى، والأستاذ علي الواسعي، والشيخ حمود هاشم الذارحي، والأستاذ عبدالفتاح جمال - مدير مكتب التربية بتعز حاليًا، وآخرين.. بعد أن أوثق سعيد علاقته بالرفاق أبلغهم بأنه يريد العمل متطوعا لدى الصحيفة، ولم يكن هناك عمل محدد يطلب أن يكون فيه، رحبوا به على أساس أن يزورهم باستمرار من أجل أن يتعلم المهنة، بعد ذلك عرض عليه أن يتطوع مع الصحيفة في مجال التصحيح الطباعي واللغوي، بحكم انتمائه السابق للغة العربية التي تذوق حلاوتها أثناء دراسته وتدريسه في الشيخ عثمان بعدن وفي تعز لاحقًا. الجندي الذي لم يلبس الميري فترة الثمانينيات في صنعاء كان الأمن المركزي يتلقف خريجي الثانوية لأداء خدمة التجنيد الإلزامي، وكان القدر قد كتب للطالب سعيد القادم من جنوب خارطة اليمن الجغرافي أن يؤدي خدمة التجنيد الإلزامي في شمال خارطة اليمن السياسي، وهي اللحظة التي تجاوزت عزيمته فيها أسوار التشطير، إذ أن الجغرافيا بالنسبة لسعيد هي العمق الوجداني الذي انتمت روحه إليه. تمكنه في الوصول إلى منبر المسجد التابع لمعسكر الأمن المركزي قاد إلى تعيينه إماما وخطيبا، في نفس المسجد قام بعمل حلقة لتدريس تجويد القرآن، وبعد فترة وجيزة التقى اللواء محمد عبدالله صالح، قائد الأمن المركزي آنذاك، وأقنعه بضرورة عمل حلقة محو الأمية للجنود العاجزين عن القراءة والكتابة، وهي الفكرة التي لاقت استحسان صالح، ليبدأ بتدريس الجنود من بعد الطابور الصباحي. في فترة التجنيد لم يعرف سعيد نكهة الميري ولم يلبس بزة الجنود إلا في فترة الاستقبال وهي تمتد لأربعين يوما، وجزءا من أيام الأمن المركزي، وذلك بالنظر إلى الوضع الخاص الذي رتبته الأقدار له في إمامة المسجد، إذ سمح له بالإضافة لعدم لبس الميري إلى الحصول على غرفة خاصة به. في تلك الفترة التقى سعيد بمشائخ وعلماء ودعاة كبار كانوا يأتون للأمن المركزي، أمثال، الشيخ عمر أحمد سيف، والشيخ عبدالمجيد الزنداني، والأستاذ عبدالعزيز الزبيري. شكل ذلك الوضع لسعيد عامل إثراء معرفي استفاد منه لاحقًا في المجال الصحفي، إذ كان يختلس من أوقات فراغه لحظات تكفيه للوصول إلى (الصحوة) والتعرف على مهنة الصحافة عن كثب. كان سعيد في العامين 1987-1988م، قد نوع في فنون العمل الصحفي، استطلاع، مقال، تقرير...إلخ، لكنه لم يعتبر نفسه صحفياً إلا مع مطلع 1989م. السفر للدراسة بعد إكماله فترة التجنيد استعد سعيد للسفر بعد حصوله على منحة للدراسة في الأردن. وفيها تلخصت ذكرياته في محطات، أبرزها تفاجئه باختيار السفارة تخصص غير مرغوب لديه، رغم حصوله على مؤهل مفتوح في القسم العلمي يؤهله لدراسة أي تخصص آخر، الأمر الذي دفعه للتفكير بدراسة الإعلام، طلبت منه السفارة أن يدرس علوم أرض وجيولوجيا، وهو ما كلفه سنة كاملة في تخصص بعيد عن مداركه وميوله الصحفية. وبعد انتهاء ورغم أن درجاته كانت ممتازة إلا أنه نكث عهده مع الجيولوجيا وأسقطها من حساباته ومن دفاتره أيضاً، وتوجه لدراسة الإعلام في جامعة اليرموك بمدينة إربد، منطلقاً من قناعات كثيرة. كانت عينه على الإذاعة والتلفزيون والأخير تحديداً، لأنه كان يشعر أن المستقبل الفعلي للعمل الإعلامي هو في التلفزيون وليس في الصحافة، تلك النظرة المستقبلية هي التي أوصلته إلى لحظة كتابة هذه السطور مديراً لمكتب قناة "الجزيرة" باليمن. أثناء دراسته بالأردن عمل مراسلاً ل(الصحوة) وقام بتغطية فعاليات عدة، كان ذلك نقطة تحول في احتراف صياغة الأخبار. في منتصف 78م كتب تقريراً عن فلسطين فيه توقعات عن احتمال حدوث انتفاضة ثورية في فلسطين. وواكب بعد ذلك اندلاع الانتفاضة التي أسميت يومها بانتفاضة المساجد بعد حادث الشاحنة الصهيونية في 6 ديسمبر 1987م. وواكب ميلاد حركة "حماس" التي وزعت بيانها التأسيسي في 15 ديسمبر من نفس العام وكتب تقريرا إخباريا عن الحركة الفدائية الوليدة ودورها في اشتعال الانتفاضة مع مطلع العام 88م. من أبرز تغطياته الصحفية تغطيته المقابلة الشهيرة للشيخ الشهيد أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، التي أجراها تلفزيون العدو الاسرائيلي في 88م بعد مداهمة منزل ياسين وتفتيشه وتهديده، كان ذلك عن طريق متابعة بث القناة، قبل أن تبدأ الانتفاضة بزخمها الكبير. أعد سعيد جملة تقارير وأول تقرير عن المستشفى الإسلامي بالأردن، وتغطية مهرجاني النشيد الإسلامي الأول والثاني، وأجرى مقابلات مع شخصيات أردنية وفلسطينية. واشتغل مع صحيفة (اليرموك) التابعة لقسم الإعلام بالجامعة، ثم برنامج إذاعي تطبيقي يتكلم عن الغربة. أثناء دراسته الجامعية كتب سعيد لعدة صحف ومجلات عربية، مثل مجلة "المجتمع" الكويتية، و"الإصلاح" الإماراتية، وجاء مشروع التخرج الخاص به تتويجاً للحلم الذي راوده سابقاً بخصوص مستقبل الصحافة الإذاعية والتلفزيونية، إذ كتب بحث التخرج عن البث التلفزيوني المباشر، في الوقت الذي لم توجد فيه فضائيات، كان ذلك عام 89م وجاءت كتابة البحث على خلفية قراءاته نقلا عن أوروبا، التي فيها الإشارة إلى أن الوطن العربي سيدخله البث المباشر قريباً. قيام الوحدة والعودة للوطن جاء تخرج سعيد في ذروة مخاضات ميلاد الوحدة المباركة عام 90م، تسارع الأحداث وغليان الساحة ابتهاجاً بالوحدة أجهض فكرة إكمال الدراسات العليا لديه، لتكون عودته صيفا متزامنة مع إعلان الوحدة. وفي صنعاء تعارضت رغبته في العمل بمجال الإعلام مع رغبة معاريفه وأصدقائه الذين أقنعوه بضرورة النزول إلى تعز لغرض تأسيس صحيفة. صادف ذلك مع صدور قرار رئيس الوزراء في دولة الوحدة، حيدر العطاس، بتوظيف جميع الخريجين في تلك السنة في مجال التدريس، حتى لو كانت تخصصاتهم لا علاقة لها بالتربية، وكان سبب ذلك استغناء الدولة في تلك الفترة عن المدرسين غير اليمنيين من المصريين والسودانيين وغيرهم. تلقى سعيد ذلك الخبر وهو في وزارة الإعلام في المبنى القديم، كانت حالته النفسية سيئة والقرار شكل له صدمة كبيرة. في ذلك اليوم التقى بالإعلامي المرحوم يحيى علاو، والأستاذ عبدالغني الشميري، كان علاو يعرف سعيد من قبل، فعرض عليه أن يتواصل معه لاحقا من أجل مساعدته على التوظيف في الإعلام، لكن سعيد قال لهم طالما أن هناك قانونا قد صدر بهذا الشأن فسوف يقبل بالالتحاق بالتربية، وكان قبوله مبنيا على نيته بتأسيس صحيفة بتعز. جاء قرار تعيينه بعد ذلك موظفا في مكتب التربية بتعز، ومنذ الأسبوع الأول تجاوز مبررات القبول بوظيفة التربية عكس طموحه بالالتحاق بوزارة الإعلام، كان من آثار التجاوز حدوث اشتباك لفظي مباشر بين سعيد، الذي كان حاداً في ذلك الوقت، ومدير معهد المعلمين بالتربة، فقام الأخير على الفور بإعادة سعيد إلى مدينة تعز، وهناك التقى بمدير التربية آنذاك المرحوم خالد محمد سعيد، الذي عرض عليه العمل في قسم الإعلام التربوي، وهو ما قبله سعيد على الفور، وشغل رئيساً لذلك القسم. ومن ثمرات ذلك التعيين إعداد برنامج لإذاعة تعز عن التربية والجيل الجديد وهو ما تكفل سعيد بإعداده وتقديمه، ليأتي ظهوره الأول في الإذاعة كأنه ترجمة عملية لطموحه في تحقيق رسالة الإعلام من خلال منصة الإذاعة والتلفزيون، كان ذلك في 91-92م. الحلقة الأخيرة نتحدث في الحلقة القادمة والأخيرة، عن تأسيس صحيفة (الاصلاح) والعمل في مجلة "نوافذ" ثم رئاسة الجمهورية ووزارة الأوقاف، وكيف أطاح حوار "مزيف" مع أحمد علي عبدالله صالح بسعيد من مكتب (المستقلة) ثم قاده خبر حول أحمد علي إلى السجن. وحكاية البداية مع قناة "الجزيرة". *المادة منقولة عن إسبوعية الأهالي ... لمتابعة الحلقة الأولى من الحوار http://alahale.net/article/19279