لقد انتهى عصر الشعارات وإلى غير رجعة ،وبدأ زمن العمل والتفاعل مع قضايا البلد وفقاً لمتغيرات الواقع الجديد الذي فرضته الثورة السلمية ،ولهذا الواقع المغاير للماضي أدواته السلمية وتعبيراته السياسية والمدنية، وجميع القوى الفاعلة في المجتمع في امتحان حقيقي وتأريخي بين التعاطي الإيجابي أو السلبي مع متغيرات ما بعد الثورة وتحديدا توجهات بناء الدولة المدنية كمطلب شعبي لا خلاف عليه. ثمة توجهات جادة وأخرى استعراضية على طريق بناء الدولة المدنية، وفي الأيام الأخيرة بدأت قوى قبلية بحشد شتاتها وإشهار تكتلات سياسية والبقية ستعلن تماشيا مع الواقع الجديد الذي لا مكان فيه لأي جماعة أو تكتل خارج الإطار السياسي المحتدم في البلاد ،ورغم الفارق بين القوى ومعايير الانضباط بمقتضيات التمدن في الدولة المنشودة. في حال اقتنع رموز قبائل اليمن بالدولة المدنية دولة القانون والعدل والمساواة بدلا من تحويش مناطق شاسعة خارج نطاق الدولة ،وصدقوا في توجهاتهم الجديدة بالعمل الجاد على تحويل ما يرفعون الآن من شعارات إلى واقع عملي، اعتقد بأن جميع الفعاليات السياسية ودعاة الدولة المدنية سيشاركون وبإخلاص في إحداث هذا التحول الممهد لبناء الدولة اليمنية الحديثة الذي ناضل اليمنيون من اجلها ومنهم أبناء شباب ورجال القبائل.. في حال تحرك عجلات القبيلة نحو التمدن لن يستطيع كائن من كان التشكيك في نوايا هذا أو ذاك ،لأن التكتلات القبلية ينقصها العمل الجاد مع بقية مكونات المجتمع للمضي نحو الدولة المدنية ،لذا بالإمكان نجاح وتعدد نماذج تمدين القبيلة التي تعد الضحية الأبرز لغياب الدولة طيلة العقود الماضية لصالح سيطرة المشائخ في معظم محافظات شمال البلاد. بلا شك، هناك أزمة ثقة كبيرة بين القبائل وفعاليات المجتمع المدني ،لكن لا اعتراض لأي يمني عن واجبه في المشاركة في مساعدة القبائل على الانخراط في الدولة المدنية في حال وجد توجهاً مدنياً حقيقياً لقبائل اليمن ورموزها لو كانت توجهات نابعة عن قناعة تامة بالدولة المدنية وما ترتب عليها من التزامات سلمية من قبل الجميع. بل على العكس من توقعاتهم بتعالي فعاليات المجتمع المدني عن حلم أبناء القبائل بالدولة المدنية، يناضل اليمنيون منذ عقود بمختلف أطيافهم لإخراج القبائل من قبضة اللادولة والعودة إلى حضن الدولة العادلة التي يفترض بالجميع العمل لبنائها، واعتقد بأن الثورة السلمية كانت بداية مشجعة لتقارب المجتمع المدني مع أبناء القبائل في ساحات الثورة بمعزل عن سيطرة دولة المشائخ.. لهذا يجب تكثيف الجهود من قبل الجميع لإحداث هذا الانقلاب الجذري في الوعي القبلي وما عدا ذلك ستظل القبيلة خارج الدولة والتعبيرات العصرية، لكن الأمل كبير لإنجاز هذا التحول في عمق القبيلة نظرا لوجود نماذج مدنية مشجعة من أبناء القبائل.. هنا فقط يجب أن تتوافر الإرادة الجادة والسلمية لتمدين القبيلة وتحويلهم إلى مجتمع منتج بدلا من إبقائهم كقوى مجتمعية خارج العصر والتأريخ نتيجة سيطرة الوجهات القبلية على أنفاس الناس العاديين الحالمين بدولة العدل والأمن والاستقرار، ولو أثبتت الأحداث الراهنة بمحاولات المشائخ إبقاء القبيلة عائقا كبيرا في طريق بناء الدولة المدنية الحديثة، فالمدنية ستتجاوز أسوار الماضي المضروبة حول مضارب القبيلة .. وبين واقع مرتبط بماضي اللادوله وتوجهات معلنة عن نية البعض اعتزامهم الذهاب إلى المستقبل بأدوات وتعبيرات العصر ومن يعتقدون بإمكانية الذهاب إلى المستقبل من خلال رفع شعارات الدولة المدنية جنبا إلى جنب مع قاذفات rbg وصواريخ لو ومواكب المرافقين المدججين بالأسلحة ولا علاقة لهم بالواقع المدني الجديد الذي يجب أن يُؤمن به الجميع ويعملون على تهيئة الأجواء لسرعة إنجازه.. وبقدر ما يُمثل الشعور الشعبي بالحرية والتغيير ومطلب الجماهير بالدولة المدنية الحديثة الذي يشكل السلاح السلمي للمضي في سبيل بناء الدولة، قد لا يُشكل كل إشهار سياسي قبلي مؤشرا على قناعة رموز القبائل بجنوحهم نحو المدنية وتعبيراتها السياسية السلمية كما لا يُعد ما ترفعه من شعارات توقفها عن ممارساتها الماضوية، كون أكثر المتشدقين بالمدنية مثقلين برصيد سيء يتعارض مع الدولة وأبجديات التمدن.. وقبل هذا كله، يجب أن يفهم المهرولون نحو المدنية أنها ليست إيقونة للزينة وترديد شعارات المدنية دليل على تغيير السلوك السياسي لهذا أو ذاك، واخشي أن تكون المدنية مجرد شعار يرفع كضرورة سياسية أو كلام يردد بلا استيعاب من باب مواكبة التغيرات الحاصلة في المشهد السياسي بفعل الثورة السلمية ،يُقبل عليها البعض دون وعي كامل بمقتضيات التمدن وواجباته في حياة الأفراد والجماعات. المدنية ليست لازمة بلا معنى، بل ممارسة وفعل نضال سلمي عميق بأدوات العصر غير الجارحة، ينتهجه الأفراد أو التكتلات والأحزاب والجماعات، ومع هذا يظل معيار التمدن مرتبطاً بتفاعل دعاة المدنية مع المجتمع وفعاليته السياسية في ممارسات يومية منسجمة مع روح المدنية ودولة القانون.. وبالعودة إلى موضة التشدق بالمدنية من الأفراد والجماعات وبالذات القبائل المعروفة في اليمن بعيشها خارج دولة القانون، في حين تشكل الاداءات السيئة والمنافية للقانون والتوجهات المدنية من قبل رموز قبليين كثر خلال العقود الماضية عامل صد نفسي كبير لدى اليمنيين بمختلف توجهاتهم، ولو كانت النوايا صادقة لدى هذا أو ذاك.. لا نعيب قبلياً يؤمن بالمدنية ودولة القانون ،لكن تأريخا من سلبية الممارسات في الشأن العام لمن أسلفنا ذكرهم، تفقد ما يعلن من توجهات مدنية لبعض الوجهات القبلية مصداقية تلك التوجهات، لهذا علينا الاعتراف بوجود أزمة ثقة كبيرة بين الناس ومن يتشدقون بالمدنية من القبائل وغيرهم.. وفي ظل بقاء القبلية وجهات وتكتلات ما قبل الدولة عائقاً في طريق الدولة المدنية، اعتقد جازما بأن إي تجربة لأي طرف قبلي ستنتهي بالفشل ما لم تتوافر النوايا الصادقة وتوجهات جادة تعززها الممارسات السياسية المتناغمة مع توجهات روح الدولة المدنية.. وعليه يجب أن ندرك بأن المدنية مخرج آمن للبلاد والعباد من الفوضى وحالة اللااستقرار التي يعيشها البلد من عقود خلت، وبقدر ما هي امتحان نضالي لا نهاية له ،فالمدنية سلوك وممارسة رفيعة وسامية وليست إيقونة للإقتناء اللاواعي في نظر من يرفعونها - هذه الأيام - بوصفها شعارا براقا يبروزون من خلالها تكتلات قبلية وجهوية من عصر ما قبل الدولة تماشيا مع المرحلة دون التزام بمسؤولياتهم نحو الدولة والمجتمع الثائر وتضحيات الناس العاديين من اجل تحقيق الحلم اليمني بالدولة اليمنية الحديثة..