لم يكن لأي مراقب الا أن يتوقع أن يتصاعد مسار القضية الجنوبية منذ لحظة الخروج الشعبي السلمي للتعبير عنها، والذي انطلق من قضية حقوقية (ذات خلفية سياسية) الى أن تصل الى نقطة “فك الارتباط” المرفوعة بكثافة في هذه اللحظة، لأن هذه هي النتيجة المنطقية للطريقة المستهترة والقمعية التي قابل بها النظام السابق أبناء المحافظات الجنوبية وحراكهم السلمي المطالب بحقوق عادلة سلبهم إياها ذلك النظام ورموزه ،كما كانوا يفعلون مع كل شيء يخصنا على هذا الوطن. لكن ما ليس منطقياً برأيي هو أن يستمر مسار ذلك التصاعد إلى أن يصل إلى نقطة تقع حدودها خارج إطار العقل، عندما يتحول شعار “فك الإرتباط” الى أيديولوجيا عدمية أخطر ما فيها أنها لن تتوقف عند هذه النقطة. أراد قادة الحراك أن يعملوا على تجذير المطالب العادلة في وعي أبناء المحافظات الجنوبية ولكنهم استخدموا تقنية كان من المنطقي أن تنتج واقعاً متشنجاً كهذا، ساعدهم في ذلك كما أسلفنا الطريقة الهمجية التي اتبعها النظام السابق في مواجهة حراكهم. تلك الطريقة وعلى الرغم من طابعها السلمي الا أنها اعتمدت على التعبئة الثقافية المصاغة ضمن مقولات شعبية يتم تداولها في كل الأماكن وعلى مدار اليوم في البيت ،والشارع،والمدرسة ،والنادي...الخ، وتركز هذه المقولات على تدعيم جانب الفرق الثقافي/الحضاري (بين أبناء الشعب الواحد وهي مقولات أنتجت جيلاً شاباً نشأ وتربى على هذه الثقافة ولم يعد يجد ذاته إلا من خلال التعبير المتشنج عن (مظلوميته) وقضيته التي ليس مهماً أن يكون ملماً بتفاصيلها وملابساتها وهو نفس الدور الذي تلعبه الايديولوجيات عند معتنقيها. كان بإمكان الحراكيين الإكتفاء بعدالة قضيتهم وبمبرراتهم العقلانية لأهمية الخلفية السياسية لتلك القضية بدلاً من النزوح نحو ذلك المنطق الذي كرس مقولة “فك الارتباط” كايديولوجية للكراهية تشبه تلك الآيدولوجيات البائدة القائمة على أساس النقاء العرقي والتفرد بخصائص وسمات لا يمتلكها الآخرون، والذي جعل تلك المطالب العادلة تتحول إلى نفير آيديولوجي مخاصم لكل ماله علاقة بالعقل ومنطق السياسة، مدعماً بمقولات لاعقلانية تفوح منها رائحة العنصرية وتصنع من الحواجز النفسية أكثر مما ستحققه من المطالب. والحال هذا لم يعد من الممكن الحديث عن القضية الجنوبية كقضية حقوقية فقط ،بل إنها تحولت إلى قضية إيديولوجية بامتياز بحاجة إلى معالجة (نظرية) تنظر أولاً في الركائز والأسس التي يعتمدها خطاب الحراك في سعيه لتدعيم وجهة نظره حول هذه القضية، وهنا بإمكاننا تلمس ثلاثة أسس رئيسية لهذه الآيديولوجيا وهي: أولاً :الهوية الجنوبية تحت هذا البند تجري محاولة صياغة وإقامة العمود الفقري لايديولوجية “فك الإرتباط” المفضية إلى (الجنوب العربي)،وذلك عبر عملية تجريف عميق للمنطق والتاريخ والسياسة والثقافة...إلخ، في محاولة مستميتة لصناعة كيان ايديولوجي أهم ما فيه أن يبدو مغايراً للآخر !!. يبدو هذا الكيان كأنه كائن إسطوري يشبه “الأرض الموعودة”!، ويستمد هذا الكيان سماته وخصائصه من كونه النقيض لطرف آخر فقط ، وكيان عدمي كهذا لا بد وأن يولد مشوهاً غير قابلاً للبقاء لأن مقومات بقائه ليست ذاتية. يعلمنا التاريخ عن نماذج لكيانات وجدت بوصفها ايدولوجيا منسلخة عن هوية جامعة للإحتماء بهوية مصطنعة غير مكتملة ،وفي هذا الإطار يتحدث بعض أهل السياسة عن دولة باكستان بوصفها “الدولة الخطأ” والتي لازالت تبحث عن هوية حقيقية تستطيع من خلالها لم أشتات هوياتها الصغرى التي لم تفلح الايديولوجية الرسمية (الإسلامية) في تأطيرها ضمن هوية واحدة، بينما الدولة الأم “الهند” وعلى الرغم من الكم الهائل من الهويات التي لا تكاد تجتمع على شيء تنطلق بخطى ثابتة لتصبح إحدى القوى الكبرى الصاعدة في النظام الدولي. لست هنا بصدد التلميح الى فكرة “الأصل والفرع” ولكني أحاول توضيح أن الايديولوجيات المصطنعة وخصوصاً تلك القائمة على أساس الموقف من الآخر تحمل في داخلها مقومات فنائها، لأنه لا يمكن أن توجد هوية جامعة لأي صنف محدد من البشر فهناك بالتأكيد اختلافات تحويها أي هوية ،وعندما تتأسس هذه الهوية على أساس الموقف من الآخر فإن الهويات العضوية المكونة لها تصير آخراً بالنسبة لبعضها البعض، وهنا تظهر متوالية لانهائية من الهويات المتصارعة فيما بينها، لأنه كلما تم (تصغير) حجم الهوية الكبرى الجامعة لأي مجتمع تزداد حدة التنافس بين مكوناته المختلفة والذي قد يفضي في حالة المجتمعات التقليدية إلى الصراع. وما يثبت صحة مقولتنا هذه هو التاريخ السياسي للشطرين اليمنيين قبل الوحدة حيث اتخذت الصراعات السياسية داخل كل منهما طابع مناطقي فئوي. إن ماحصل في الجنوب قبل الوحدة ،والذي يرتكز عليه منظرو الحراك في محاولتهم إصطناع هوية ( جنوب عربية) لايمنية ، لم يكن سوى ترشيد للهوية اليمنية وقوننتها من قبيل إختصار التخزينة (القات) في المحافظات الجنوبية إلى يومين في الإسبوع قبل الوحدة بدلاً من سبعة في الشمالية، وكذلك محاصرة ظاهرة حمل السلاح وقضايا الثأر، وهي التي استمرت كجزء أصيل من الهوية اليمنية لدى الشماليين. وهنا يظهر الأمر بصورته الحقيقية القائم على منطق فرض سلطة الدولة والقانون وهو ما لم تكن الشريحة الحاكمة في الشمال تحبذهما لأن فرضهما سيكون عائقاً أمام سلطتها القائمة على الفوضى ومنطق القبيلة. ثانياً : مدنية الجنوب مقابل تخلف الشمال قد تحمل هذا المقولة ،التي أصبحت شبه مسلّمة يتداولها الناس شمالا وجنوباً، بعض الحقيقة ولكن هذه المقولة بحاجة إلى إعادة نظر تعيد المسألة إلى وضعها المنطقي. لا يجادل أحد أنه توافر في الجنوب تراث دولتي (إن جاز التعبير) يتفوق على نظيره الشمال، وهذا ليس نتاجاً لحالة حضارية فقد كان اليمن بشماله وجنوبه موطناً للدولة منذ عصور قديمة، ولكن النقطة الحاسمة هنا هي إحتلال الجنوب من قبل الإنجليز، ودخول الشمال في (عهدة) الأئمة ومن قبلهم ومعهم الأتراك، وهذا ساهم في إيجاد بنية حديثة للدولة في الجنوب وإنعدامها في الشمال لما عرف من الطبيعة الإنعزالية لدى الأئمة. وبعد انتهاء حكم الأئمة في الشمال والإستعمار البريطاني في الجنوب أستطاعت الجبهة القومية ووريثها الحزب الإشتراكي اليمني المحافظة على تراث الدولة المتوافر في الجنوب، بينما كان على الشماليين أن يبدأوا من الصفر،ولكن نتيجة لسيطرة الجناح القلبي المتحالف مع مكوناته العسكرية منذ انقلاب 5نوفمبر 1967م ، (والذي تكرر في يوليو 1994م) فإنه لم تحدث القطيعة مع تراث ما كان قائماً قبل الثورة..وجدت الدولة ولكن بنيتها وعلاقاتها الاجتماعية استمرت كوريثة لدولة الأئمة. من خلال هذه الخلفية التاريخية يمكن استنتاج أن حالة المدنية والتخلف ليستا حالة حضارية تعود إلى اختلاف ثقافي يؤدي بالضرورة إلى إختلاف في طريقة التفكير وأنماط الحياة، بقدر ما هي نتاج لطبيعة نظام الحكم هنا وهناك، وهذا يعني انها حالة يمكن معالجتها. يثبت صحة طرحنا هذا أنه عندما وجدت نية حقيقية لإقامة الدولة على أسس حديثة في الشمال خلال فترة حكم الرئيس إبراهيم الحمدي كان هناك إستعداد لدى الشماليين للإلتزام بموجباتها،ولا زالوا حتى الآن يشعرون بالحنين لتلك الفترة التي ستبقى محط احترامهم وإعجابهم، بنفس القدر من الحنين الذي يشعر به أبناء الجنوب تجاه نظامهم السابق بعد أن دخلنا جميعاً في دوامة نظام اللانظام الذي أقامه على أنقاضنا جميعاً صالح. إضافة الى كل هذا يمكن القول إنه ماعدا وجود سلطة الدولة/الحزب في جميع أجزاء الدولة الجنوبية وسيادة القانون بشكل أفضل مما كان لدى الشمال ،فإنه لم يكن هناك حالة اجتماعية مدنية خارج المدينة / عدن ، حيث بقت المناطق الأخرى تشبه إلى حد بعيد نظيرتها الشمالية في تركيبتها وعلاقاتها الإجتماعية.هذا يعني أن المدنية الجنوبية كانت منحصرة أساساً في مدينة عدن باعتبارها مدينة مفتوحة على العالم منذ عهد الإستعمار البريطاني ولا توجد لها هوية محددة (غير أنها عدن وفقط ). لاشك أن الممارسات اللاأخلاقية التي قام بها من يملكون الحكم على أرض الجنوب تنم عن عقلية همجية متخلفة ، ولكن ليس من المنطقي أن تلقى كل نتائجها على كل أبناء الشمال، فقد قام هؤلاء بفرض نموذج حكمهم المتخلف على اليمن بأكمله رغماً عن إرادة جميع اليمنيين الذين كانوا يأملون إنتهاء هذا النموذج بعد تحقيق الوحدة وتكاتف كل القوى الوطنية من أجل إنهاء سيطرة هذا الجناح ،والإنتقال الى الدولة الحديثة. ثالثاً: الأرض التي تفيض عسلاً!! يتحدث كثير من أنصار “فك الإرتباط” عن أن فك الإرتباط سيمكن الجنوبيين من استثمار الثروات الجنوبية بدون مشاركتها مع طرف آخر استغلها لمصلحته فقط وحرم أبناء هذا المناطق من عائداتها. في الحقيقة أن سيطرة متنفذي النظام السابق بعد حرب صيف 94 على تركة النظام الإشتراكي في الجنوب والتي خلفت وضعاً مأساوياً يرزح تحت وطأته الكثير من أبناء المحافظات الجنوبية على إعتبار أنهم كانوا في ظل دولة إشتراكية تعيل الجميع وتنظم الحياة الاقتصادية للدولة والمجتمع، وعندما سقط ذلك النظام ترك هؤلاء للؤم وجشع المتنفذين القادمين من أقاصي الشمال على إعتبار أنهم أنتصروا ، وبحسب ما تمليه عليهم ثقافة “الفيد” فإن الطرف الآخر وكل ما كان تحت إدارته أصبح مجالاً للنهب والاستحواذ بدون إلتفات لمصير شعب بأكمله، كل هذا يمكن أن يكون مبرراً منطقياً لفكرة سيطرة الشماليين على ثروات الجنوب. وعلى الرغم من تعاطفي مع أبناء الجنوب الا أنني أرى أن أي فكرة أنانية من قبيل “سنستعيد دولتنا وثرواتنا ونترككم تموتون جوعاً” ليست فكرة أخلاقية يمكن أن تلهم قضية كبرى مثل الإنفصال “أو فك الإرتباط”..إطلاقاً لا يمكن لشعب أن يولد من رحم مبرر لا أخلاقي كهذا. هذا بالإضافة إلى أنني لست متأكداً من فكرة أن الجنوب أغنى من الشمال أساساً، وما أعتقده هو ان هناك كان استحواذ على مقدرات كل الشعب شمالاً وجنوباً وسوء توزيع لها. تتكرر هذه المقولات ،وغيرها من المقولات المساندة، في إطار تعبئة ثقافية تستخدم العنف اللفظي ضد الآخر بوصفه شيطاناً أو كائناً لاآدمياً قادماً من الفضاء الخارجي، في خطاب القنوات التي تتبنى قضية فك الإرتباط ، وفي معظم بيانات فصائل الحراك، وهو ما أوجد حالة من القهر لدى شريحة واسعة من أبناء المحافظات الشمالية الذين كانوا يعتقدون أنهم في الطرف الذي يتواجد فيه الحراك السلمي بوصفه حاملاً لقضية عادلة تلتقي مع المطالب التي رفعتها جموع الشعب اليمني من أقصاه إلى أقصاه في ثورة شعبية عارمة عملت ،ولا زالت تعمل، على جعل المطالب العادلة لأبناء الجنوب حقيقة واقعة في إطار معالجة وطنية شاملة، تقوم على أساس الشراكة الوطنية وتحقيق آمال وتطلعات الشعب اليمني. كان الجميع يعتقد أن الثورة الشعبية ،وبنفس القدر الذي مثلت فيه استجابة لمطالب أبناء الجنوب، فإنها قد أتاحت عدداً من الخيارات التي يمكن عن طريقها حل القضية الجنوبية حلاً عادلاً يعمل على ردم الشرخ النفسي الذي صنعته سنوات القهر السياسي والاجتماعي الذي مارسه النظام السابق على الجنوب واليمن بشكل عام، ولكن يبدو أن المسيرة المضطربة للحراك كانت قد أفرزت قيادات لا يهمها مصلحة الجنوب أو الشمال بقدر ما تهمها مصالحها الذاتية التي حصلت عليها من خلال تزعم بعض الفصائل الحراكية. كما أنه من خلال قراءة الخطاب الحراكي يتضح حجم التضليل الذي تمارسه هذه القيادات على أنصار القضية الجنوبية حيث أن هذا الخطاب ينهل من عقلية ايديولوجية إقصائية تخوينية تجاه بعضها البعض وبشكل يذكر بماض لم يعد احد يتمنى عودته في زمن يشهد ثورة الشعوب المقهورة التي انتهى عمرها الإفتراضي في أقبية الشعارات التخوينية والإنتقام المتبادل، فهل يعقل أن تمضي الشعوب العربية في طريق الخلاص من كل هذا بينما ينحرف أبناء الجنوب وراء شهوة قيادات لازالت تسكن غبار التاريخ ضداً لمسيرة التاريخ الإنساني؟!. ما يجب أن يعرفه هؤلاء هو أن الوضع الذي يسوقوننا إليه هو وجود جماعتين (وليس شعبين) يفصل بينهما شرخاً كبيراً من الحقد والكراهية والإحتراب الدائم وهو مالم يقم به لا الإستعمار ولا الإمامة ولم يجرأوا حتى على التفكير فيه. أنا هنا لا أفكر نيابة عن أبناء الجنوب باعتبارهم ناقصي عقل وأقول لهم الوحدة هي خياركم الوحيد، ويكفي أن أشاهد قناة “عدن لايف” وهي تمارس بحقي ذلك الكم الهائل من العنف اللفظي الذي يخرجني من الطبيعة الآدمية !!، ولكني أعتقد أن ما يجب أن نفكر فيه الآن هو كيف نعيد صياغة أوطاننا على أسس جديدة تقوم على مفاهيم المواطنة المتساوية بعيداً عن كل إفرازات الحقب الماضية التي غرست فينا الاستلاب للظاهرة الشعاراتية ،وحياة الإنعزال ضمن قطعان متشابهة لكنها متنافرة نتيجة لسيطرة ثقافة الخوف وشيطنة الآخر. أخيراً..أعرف أنه لا يمكن معالجة قضية كبرى كالقضية الجنوبية بخلفيتها الإنسانية والسياسية بالرد على مقولات وشعارات بعض الفصائل التي تدعي تمثيلها ،والتي ربما تدخل في إطار المناكفات التي لم يعد هناك طائل من ورائها في مثل هذا الوقت الذي تتهيأ له اليمن للدخول في مؤتمر للحوار الوطني الشامل والذي يفترض أن يكون الأرضية التي عليها أن تقدم الرؤية الشاملة لمستقبل اليمن والتي يجب أن تطرح فيه كل القضايا بما فيها قضية “فك الإرتباط”، وهذا ما يجب أن يفكر فيه الجميع ويعملوا من أجله.