تتنافس على أرض المحافظات الجنوبية فعاليات الثورة الشعبية التي انخرط فيها أبناء الجنوب مع أبناء الشمال، وفعاليات الحراك المسلح بقيادة علي سالم البيض المدعوم من إيران، وفعاليات لأطراف تقف بين الاثنين وتتمثل في الحراك السلمي الذي ينقسم إلى قسم أقرب لتيار الثورة ويطالب بحل القضية الجنوبية تحت سقف الوحدة، وقسم يطالب بالانفصال. ومع الاقتراب أكثر باتجاه الحوار الوطني ترتفع في عدن وعدد من المدن الجنوبية وتيرة التوترات التي يقف الحراك المسلح طرفا فيها، وتسانده أطراف أخرى تتقاطع مصلحتها معه في إفشال الحوار، أو إعاقته بهدف تأجيله. وتعود بداية تصعيد التيار المسلح نشاطه إلى تاريخ (21 نوفمبر 2011م) الذي جرى فيه توقيع المبادرة الخليجية القاضية بتنصيب عبدربه منصور هادي رئيسا للجمهورية خلفا لعلي عبدالله صالح. وعلى أن اسم هادي كان توافقيا بين مختلف الأطراف السياسية (النظام وقوى الثورة) إلا أن هذا الأمر أثار حفيظة الحراك المسلح، تبعا لما بعثه اسم هادي من ماض كان فيه الرجل والمحسوبون على هذا الحراك طرفي صراع أخذ أشكالا عدة، وتنقل بين عدة محطات أبرزها حرب يناير 86م، ثم حرب 94م. ويبدو أن تجاوز هذا الماضي الأليم يستعصي على الطرفين. الأمر الذي تزداد به احتمالات التلاقي والتصالح تصدعا. وخلال الفترة الماضية منذ الانتخابات الرئاسية في 21 فبراير من العام الجاري لم تلحظ مبادرة من النظام الممسك بزمام الأمور نحو تلمس الطرق لتنفيس الاحتقان لدى الأطراف الجنوبية المختلفة (تيار الثورة الممتد أصلا من الحراك السلمي، والحراك السلمي، والحراك المسلح). ويتذمر قيادات جنوبية مما يعتبرونه تعمدا لاستمرار سياسة الإقصاء بحق تلك الأطراف لصالح الأطراف المنخرطة في النظام الجديد. ويلتقي الحراك المسلح مع عدة أطراف عند هدف التصعيد الحالي، أبرزها بقايا نظام عائلة صالح الذين لا يزالون ممسكين بزمام القرار الأمني والعسكري، ويؤثرون -تبعا لذلك- في جزء من القرار السياسي. والأحداث الأخيرة تلفت الأنظار صوب النظام الجديد، وتثير تساؤلات حول موقفه مما يحدث؟ وبتعدد هذه الأسئلة تتعدد الإجابات، إلا أن الإجابة على السؤال الأبرز تكاد تقول إن لدى النظام رغبة في استمرار هذا التصعيد والتوتر على أمل إعادة القضية الجنوبية إلى مربعها الأول الذي كانت فيه قبل اندلاع الثورة، وهو ما سيعني الحيلولة دون إعادة إنتاج الثورة بشكلها العام في حال انقلابه على بند الحوار الوطني، وبأي صيغة جاء هذا الانقلاب. ويعتقد النظام أن الذين ما زالوا ضمن تيار الثورة -بما فيهم الملتزمون بسلمية الحراك غير المعترفين بالثورة- يعززون موقف القوى الثورية ممثلة بتكتل أحزاب المشترك وشركائه والأطراف التي ستخوض معهم الحوار متبنية أهداف الثورة. وهو ما يبرر له محاولة تهييج الحراك الانفصالي ورفده بالمكاسب ليقوم هذا التيار بسحب أكبر عدد ممكن من ساحة الثورة حتى يتحول العكس هو الأمر الواقع في الجنوب، أي حتى تصبح الأقلية ضمن تيار الثورة والأغلبية ضمن تيار الانفصال، أو على الأقل ضمن التيار الذي يطالب بحل القضية الجنوبية بعيدا عما سوى ذلك من أهداف ومطالب الثورة، وأن يكون لهذا التيار ممثليه الذين ليسوا من ذات القوى الثورية المشار إليها آنفا. وساعتها سيمكن التحاور مع هؤلاء على أساس أنهم أصحاب قضية اسمها القضية الجنوبية لا أصحاب قضية اسمها ثورة وطن تحمل مشروعا متكاملا للتغيير. وغياب أسماء قيادات الحراك والقضية الجنوبية عن "اللجنة الفنية للإعداد والتحضير للحوار الوطني" جاء يؤكد تعمد النظام استفزاز أبناء الجنوب، فضلا عن غيرهم ولا مناسبة للحديث عنهم هنا. وفيما يبدو تأجيل خطوات الحوار هدفاً أولاً للنظام من وراء هذا التهييج للحراك البعيد عن الثورة الشاملة، فإن الهدف التالي يتمثل في سحب البساط من تحت القوى الثورية هناك وإحراقها سياسيا. والطريقة التي تقابل بها مسيرات وفعاليات الحراك، وتحديدا التي نظمت يوم (7/7)، تشير إلى أن النظام يدفع نحو العنف لتحقيق أهدافه المشار إليها، ليكشر -بعد ذلك- عن أنيابه ويفتك بأبناء الجنوب، وهو -في كل هذه الخطوات- آمن من أي تداعيات تؤدي إلى الانفصال، مستمدا هذا الأمان من النموذج السوري الذي وقف فيه الفيتو الروسي عائقا أمام تحقيق هدف الثورة وحاميا لنظام الأسد. وإذا كان بشار الأسد قد تمكن من الصمود رغم كل تلك الثورة ورغم المجازر لمجرد أن الفيتو الروسي في صفه، فكيف بالانفصال في اليمن الذي ترفضه الخمس الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن؟ وربما أن هذا هو الأساس الذي قام الدبلوماسي الألماني ببناء حكمه عليه إذ قال يوم الاثنين من الأسبوع الماضي إن «الاضطرابات لن تؤدي إلى انفصال الجنوب» -بحسب ما نقلته أخبار اليوم. وتلاحظ إشارته إلى أن هناك «مخاطر من تزايد حالة عدم الاستقرار التي سيتأذى منها الجميع» في الجنوب. والعنف المحدود والمتقطع الذي يراد أن يكون -الآن- بمثابة عامل تهييج، سيكون -بعد تحقيقه الهدف المشار إليه سابقا- فتيلا لمحارق كبيرة تستهدف أبناء المحافظات الجنوبية، ولن تعدم هذه المحارق -في ذلك الوقت- مبررا من قبيل إخماد التمرد المسلح ومحاربة القاعدة. وتذويق أبناء المحافظات الجنوبية أصناف الويل الناعم والخشن سيكون -يومها- هو الوسيلة التي تعيد الجميع ليتمنوا الحوار الذي كانوا يرفضونه سابقا، وفي الوقت الذي يكون فيه النظام قد أصبح جاهزا للحوار. وسيتحقق ذلك بذات الطريقة التي فرضت بها المبادرة الخليجية، وللإشارة إلى هذه الطريقة أقتبس هذه الفقرة من تناولة نشرتها في هذه الصحيفة في 17 مايو 2011م: «وخلف هذا التراجع رسالة سعودية مفادها: مادمتم رفضتم المبادرة فدونكم الساحات والميادين، وليمعن علي صالح فيكم القتل حتى تستنجدوا بنا وتستجدوا مبادرتنا وتوقعوا عليها قبل أن تعرفوا مضمونها وتعترفوا لنا -فوق ذلك- بالجميل». ممارسات لتهييج الحراك وإذا كانت مواجهة المظاهرات بالقتل والقمع لا تعني سوى رغبة النظام في تهييج الحراك الانفصالي وإكسابه المزيد من الأنصار الذي سيتدفقون إليه من ساحة الثورة، وأن هذا هو عنصر الاستفزاز الذي يهيج الجنوب على مستوى الشارع. فإن ما يحقق ذات الهدف على المستوى السياسي الأعلى أمر تتكفل به طريقة إدارة الدولة في الوقت الحالي، وقد أثمرت هذه الطريقة استفزازا واضحا للمشترك وشركائه، وإن كان الحزب الاشتراكي هو الذي عبر عنها رسميا في بيانه الأخير. وهكذا، ستشهد الساحة -وفق هذا التوجه- سحبا للجماهير من تحت لافتة الثورة إلى تحت لافتة القضية الجنوبية منفصلة، وكذا صرف شيء من الاشتراكي عن المشترك وسحبه من هدف التغيير العام إلى القضية الجنوبية، إضافة إلى سحب من يمكن سحبهم من تحت مظلة الثورة إلى أي مشاريع أخرى. وبعد أن يؤدي هذا المخطط دوره في تأجيل خطوات الحوار والسماح للنظام بترتيب أوراقه، والمباعدة الزمنية بين الناس وثورتهم، سيضمن -في نهاية المطاف- حوارا تتواجد فيه كل المشاريع إلا مشروع الثورة. ونقلت أخبار اليوم في عدد الثلاثاء الماضي عن رئيس مجلس عدن الأهلي المهندس خالد عبدالواحد قوله على خلفية الأحداث التي شهدتها عدن مؤخرا: إن الانفلات الحاصل في الجنوب هو "بقرار سياسي". إلا أن الرجل بدا كما لو أنه لا يرغب في تصعيد الخطاب ضد النظام الجديد، فاستدرك بالقول: "بقرار سياسي من بقايا النظام السابق". وعلى أن صلف النظام السابق في الجنوب واضح تؤكده كثير من المعطيات والتقارير والتحليلات السياسية إلا أنه -رغم ذلك- لا يوصف بأنه يمتلك القرار السياسي، إذ القرار السياسي ليس الآن في يد النظام السابق. توجه النظام يصطدم بالقوى الأخرى على افتراض صحة ما سبق، فذلك لا يعني أن الرياح ستجري بما تشتهيه سفن القائمين على مخطط إعادة الوضع في الجنوب إلى ما كان عليه قبل الثورة، إذ سيصطدم هذا التوجه بالتوجهات الأخرى التي تتبناها قوى الثورة وغيرها. وبدت الفعاليات الثورية في الجنوب في الأيام القليلة الماضية أكثر زخما منها في المحافظات الشمالية. وأطلقت القوى الثورية على الجمعة قبل الماضية اسم «جمعة القضية الجنوبية قضيتنا»، وهي إشارة إلى إدراك هذه القوى لخطورة الاستفراد بالقضية الجنوبية، وإن كان يحتمل أن الأمر أبسط من ذلك وأن الاسم لا يعدو أن يكون استجابة لمصادفة تلك الجمعة لتاريخ (7/7). وكشفت الأشهر الماضية أن قوى الثورة قد قررت ترحيل كافة القضايا لطرحها في الحوار الوطني، بينما قرر النظام ترحيل الحوار الوطني برمته، والخطوات الحالية في اتجاه الحوار ليست إلا خطوات صورية لا عملية. مع الإشارة إلى تململ لدى القوى الثورية ينذر بموجة ثورية قادمة، وهو ما يشي به الموقف الأخير للمجلس الوطني لقوى الثورة وقيامه قبل أيام بطرح لتلك المطالب على طاولة الرئيس، ثم بيان الاشتراكي، ثم تسمية الجمعة الفائتة ب»إقالة بقايا العائلة»، وهو الاسم الذي أعاد إلى الأذهان أسماء الجمع في فترة الزخم الثوري. ولقد التزمت القوى الثورية خلال الأشهر الماضية صمتاً أغرى النظام والأطراف الخارجية الراغبة في احتواء الثورة بالمضي في اتجاهات بعيدة عن عملية التغيير المتفق عليها. وتململها في الوقت الحالي إذا تحول إلى حركة ميدانية كفيل بصرف تلك المخططات إلى غير ما يريد أصحابها. وتتعاضد مع ذلك معطيات أخرى تقف جميعها حائلا دون النظام وهدفه. فليس من السهل إعادة وضع الحراك في الجنوب إلى ذات الصيغة التي كان عليها قبل الثورة، ذلك أن الفصيل المتصدر للمشهد الحالي والذي يراد له أن يظل متصدرا لم يعد حراكا سلميا، وحملُه السلاح سيعطي للأوضاع خلال الفترة القادمة شكلا مختلفا، وسيصرف مسار الأحداث في غير الاتجاه الذي يخطط له القائمون على مخطط إعادة الحراك إلى مربعه السابق. كما أن ارتباط هذا الفصيل بالقاعدة، واستغلال القاعدة للعنف والاضطراب في الجنوب لتنفيذ عملياتها وتحقيق أهدافها يجعل من سير النظام في مخططه المشار إليه مجازفة كبيرة. وباتجاه الدرس السوري المستمر حتى اللحظة والذي رسخ اطمئنان النظام والأطراف الدولية إلى استحالة تحقق الانفصال، فإن ذات الدرس قد وصل إلى أبناء الجنوب، وفي المقدمة نخبه وقياداته التي كانت تتنافس وتتسابق على الجمهور من خلال تصعيد الخطاب والمواقف باتجاه الانفصال. وإلى ذلك، وباستثناء تيار الحراك المسلح الذي يتزعمه البيض، فإن قيادات الفصائل الأخرى لن تكون سهلة الانجرار، لا وراء الجماهير التي لا يُرضي عقلها الجمعي إلا الحد الأعلى من الخطاب والمواقف، ولا وراء الجهود الخفية التي يبذلها رعاة هذا التوجه، توجه إعادة الحراك إلى مرحلة ما قبل الثورة. النظام.. الثمن الباهظ إن كان بمقدور النظام الجديد تجاوز كل هذه العقبات رغم صعوبتها، والمضي بهذا التوجه إلى نهايته، فإنه سيكون -في ذلك الحين- قد احترق!!