ثلاثة أعوام مروا على الثورة.. كانوا بمثابة أحزان وأوجاع لأسر الشهداء اجتروا خلاله ذكريات أليمة.. خاصم النوم عيونهم لفراق فلذات أكبادهم.. لا زالت تلك الذكريات تمر على أسر الشهداء بإيقاع مؤلم يتذكرون أحبتهم الذين سقطوا في جمعة الكرامة. لم ولن تهدأ أسر الشهداء من الوجع والنزيف الدامي ولازالت وجوههم يرتسم عليها الحزن والإصرار وكلمات لا تخرج عن المطالبة بالثأر السريع لتطفئ حرقة قلوبهم التي تلظت بفراق أحبتهم. جلسة أعادتنا لذكرى جمعة الكرامة مع بعض أهالي الشهداء وجرحهم النازف.. لم يَكُن بخلدي ولا بخلد أحد أن يتصور أن يحدث ما حدث في جُمعة الكرامة ، بل لم يكن بخلد ذلك الزائر من إمريكا إلى وطنه الأم ( اليمن ) وهو يحمل جنازة عمه قادم بها من إمريكا حتى تؤسد تُراب اليمن الذي لطالما عشق تُرابها كل مغترب وكل شخص ، لم يُكن بخلده يوماً أن يعيش تلك اللحظات التي لطالما حدثته بها نفسهُ فقط مُجرد (خواطر) أتى حاملاً جنازة فتركها حتى يحمل بين ذراعية شُهداء إخوانه الذين تساقطوا أمامهم وعن يمينه وشماله ، وهو يرى الدماء تسيل من أجسادهم الطاهره النقية وهو يدافع عنهم ويحاول إبعادهم إلى ملاذ آمن . لم يكن يتخيل هذا الزائر الذي ترك جنازة عمه لُيصلي عليها غيره أنه حتماً سوف يُصلي على ما يُقارب الخمسين جنازة وأكثر ، ربما لانه كان يوماً استثنائياً من أيام اليمنيين التي هي في معظمها استثنائية عندما احتشد الشباب والكهول والشيوخ من الجنسين لأداء صلاة الجمعة ككل جمعة في ساحة التغيير في صنعاء . . . كانت صلاة الجمعة ككل الصلوات تقرباً إلى الله وتضرعاً إليه لقبول توبة التائبين واستغفار المستغفرين ورفع الظلم عن المظلومين ورد كيد الكائدين في نحورهم، والقصاص من الفاسدين وآكلي المال العام وكل من أجرم في حق الشعوب ونكل بشرفائها ومناضليها ، لكنها فضلا عن ذلك كانت حشدا لأكثر من مليون ثائر وثائرة من أبناء صنعاء وحدها غير الملايين الذي احتشدوا في أكثر من 16 ساحة أخرى في معظم محافظات الجمهورية . . .كانت هذه الملايين تعبر عن رفضها لاستمرار الوضع المعوج القائم على قمع الشعب ومصادرة حريته ونهب ثرواته والتحكم في مستقبله، وكان تعبيرا عن وحدة إرادة هذه الملايين المصممة على التغيير ..والذهاب إلى مستقبل أقل فسادا وأقل قمعا واستبدادا وأكثر أمنا وانفتاحا على العصر الذي مضى .. كان يُمني نفسه وهو يُشاهد الثوار الأحرار وتلك الحرائر الطاهرات أن يكون يوماً بينهم تتشابك يده بإيديهم وتختلط أنفاسه بإنفاسهم ... كان يوماً مهيباً أظهر الشباب بطولة منقطعة النظير تقترب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة . . . لقد كان الرصاص ينهال كالمطر على الشباب في حين كانوا يتقافزون لإنقاذ زملائهم الذين يسقطون أمام أعينهم، . . . كان القتلة يتلذذون وهم يرون الجثث تتساقط على الأرض، والدماء تسيل وهم يواصلون صب مطر الرصاص على الشباب. بعض الشباب تجرأ واجتاز حاجز الدخان واقتحم العمارة التي يتمركز فيها القناصة حتى روى البعض أن الشباب وصولا إلى أماكن تخندق القناصة والقبض على بعضهم وسلبهم ما بحوزتهم من السلاح. كان من ضمن أولئك الشباب الذين شاركوا في القبض على أولئك القناصة وحينما كان بيده احدهم تأتيه رصاصة طائشه لكنها أصابت يده اليمين وهو يراها تنزفُ دماً فيصرخ فزتُ ورب الكعبة ، كان يُمتعُ ناظريه والدماء تسيل وهو ضاحكاً مُبتسماً ، ويسمع صرخات النساء من حوله سنفديكم بإرواحنا وهو يرى أخواته يتقدمن المسيرة فيحزّ في نفسه هذا وهو يحاول يدفعهن للوراى ، فتمسكه إحداهن وهي تقول له لابد من إسعافك فيرفض لكنها تُصر عليها فُيحمل للمستشفى الميداني حتى يتم إسعافه ... قد تجلى هنا بوضوح الفرق بين نوعين من القيم الأخلاقية: قيم الثورة والثوار، وقيم الطغيان والطاغية، عندما تكون الثورة في موقف أضعف من حيث العتاد والوسائل لكنها ترفض الانتقام حتى وإن أتيحت لها فرصه بينما يمتلك القتلة كل أدوات القانون والوسائل الدستورية لكنهم يضربون بها عرض الحائط ويختارون القتل وحده لأنه الأقرب والأسهل لتحقيق مآربهم القائمة على الإرهاب والتنكيل والتصفيات الجسدية. علينا ونحن نستعيد ذكرى جمعة الكرامة أن نقف إجلالا وإكبارا لأرواح الشهداء الأبطال وأن نستحضر من تضحياتهم معاني الفداء والإيثار والإقدام والتمسك بالحرية والعدل والنقاء ورفض الظلم مهما كان اللباس الذي يرتدي مرتكبوه.، وعلينا أن نجعل من جمعة الكرامة درسا للعزة والكرامة وإباء الضيم والانتصار للمظلومين وضحايا الاستبداد والسلب، وإن لا نسمح للثورة أن تتحول إلى أداة لحماية اللصوص والنهابين والمحتالين والقتلة والمجرمين أينما كانوا ومهما كانوا، وأن لا نسمح بتحويل قانون الحصانة إلى سابقة تليها عدة حصانات في المستقبل لمن قد ينوي السير على طريق الطاغية والدائرين في فلكه. رحم الله أبو الأحرار وهو يقول : الشعبُ أعظمُ بطشاً يومَ صحوتهِ ** من قاتليهِ، وأدهى من دواهيهِ يغفو لكي تخدعَ الطغيانَ غفوتُهُ ** وكي يُجَنَّ جنوناً من مخازيهِ وكي يسيرِ حثيثاً صوبَ مصرعهِ ** وكي يخرَّ وشيكاً في مهاويهِ