توافق الأطراف المشاركة في الحوار الوطني في اليمن على اعتماد مبدأ الفيدرالية للدولة، كحل وسط بين المتمسكين بالوحدة وبين المطالبين بانفصال الجنوب عن الشمال، وهي خطوة مهمة وبناءة يمكن أن تشكل مخرجاً إذا لم تغرق بشياطين التفاصيل. بعد شهور من الحوار المضني بين مكونات مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، الذي من المفترض أن ينتهي اليوم حسب جدولة المرحلة الانتقالية، توافق الجميع على مبدأ الفيدرالية كشكل للدولة الجديدة، غير أن الخلاف مازال قائماً حول عدد الأقاليم الفيدرالية وحدود كل منها، وفي جانب منه يعود إلى الخلاف الأم بين الحراك الجنوبي وباقي المكونات السياسية في الشمال. الجنوبيون يتمسكون بفيدرالية أساسها الحدود السابقة بين دولتي الجنوب والشمال قبل الوحدة، 22 أيار/مايو 1990، بينما يتمسك ممثلو الكيانات السياسية الشمالية بإنشاء عدة أقاليم فيدرالية للحفاظ على دولة الوحدة، وعدم إرسال رسائل خاطئة قد يفهم منها بأن الحل الفيدرالي مجَّرد مرحلة مؤقتة وانتقالية بين كيانين، على طريق الانفصال مرَّة أخرى بين الشمال والجنوب. ويعكس الخلاف في جانب منه أن الحوار الوطني لم يذلل مخاوف الجنوبيين من موقعهم في مستقبل دولة الوحدة، من حيث معالجة أخطاء الماضي التي ترتبت على حرب السابع من تموز/يوليو 1994، وتمثلت باستبعاد قيادات الجنوب، وغلبة المكونات السياسية الشمالية واستئثارها بدولة الوحدة، تحت قيادة الرئيس السابق علي عبد الله صالح. كما يلاحظ أن مطلب الجنوبيين بأن تكون الفيدرالية بين إقليمين، هما الجنوب والشمال، يعيدنا إلى تفضيل معظم اليمنيين الجنوبيين على أبواب الوحدة أن يتم البدء بكيان فيدرالي موحد بين الشمال والجنوب، وليس وحدة اندماجية، لكن تقديرات قيادة دولة الجنوب (آنذاك) برئاسة علي سالم البيض كانت غير متخوفة من فكرة الاندماج، ودفعت ثمن هذا غالياً في حرب 1994، التي انطلق فيها الشماليون في معالجة معضلات الاندماج عملاً بقول منسوب إلى الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر "ما حدث عام 1990 هو إعادة الفرع والأصل"، وعليه لم يتردد الرئيس علي عبد الله صالح بعد حرب 1994 بإلغاء كل الاتفاقيات المؤسسة لدولة الوحدة، وقام بتغيير الدستور والكثير من القوانين التي اعتبرت من مقومات دولة الوحدة، وجرى استبعاد الغالبية الساحقة من القيادات السياسية الجنوبية، ليصبح الحديث بعدها ليس عن وحدة اندماجية طوعية، بل عن وحدة عمِّدت بالدم. إن ما وقع في حرب 1994، وما بعدها، كان صادماً بالنسبة للجنوبيين، وهم يرون استباحة مدينة عدن، واستبعاد الجنوبيين من إدارات الدولة والجيش والأمن ومعاملتهم كمهزومين في الحرب. وامتدت الممارسات القمعية لنظام علي عبد الله صالح لتشمل أراضي الشمال سابقاً، وبدأ صالح يؤسس لديكتاتورية تعتمد على حكم العائلة والمقربين من القبيلة، إلى أن أزيح أخيراً بثورة شعبية بعد 33 عاماً من تربعه على سدة الحكم، لكن معالجة الكوارث التي تركها وراءه تحتاج لسنوات حتى يتم علاجها، والكثير منها تركت في نفوس اليمنيين جراحاً دامية من الصعب محوها، وخيمت على أجواء الحوار الوطني اليمني، ومنها علاقة الشمال بالجنوب. في سياق معالجة أخطاء نظام علي عبد الله صالح قدَّمت الحكومة اليمنية الانتقالية، في آب/أغسطس الماضي، اعتذاراً عن الحروب التي شنها نظام صالح ضد الجنوبيين، وضد الحوثيين في الشمال، ضمن مسعى تمهيد الأجواء للمصالحة الوطنية بين أبناء اليمن، واعتبرت أن الحرب ضد الجنوب خطأ تاريخي لا يمكن تكراره. وتعكف الحكومة اليمنية، من خلال لجان مختصة، على اعتماد إصلاحات دستورية وإدارية كبيرة قبيل الانتخابات الوطنية المقررة في السنة المقبلة. إلا أن رفع المظالم عن كاهل اليمنيين أبان حكم صالح، والجنوبيين خاصة، يحتاج إلى أكثر من إصلاحات دستورية وإدارية وإصدار قوانين. فالعبرة كما هي في أمثلة مشابهة تكمن في تطبيق روح الإصلاحات وإعمال سلطة القانون، لاسيما أن بنية مؤسسات الدولة التي ورثتها الحكومة الانتقالية تشكِّل عقبة كأداء، ليس فقط لجهة تغلغل أدوات الدولة العميقة التي غرسها صالح، بل أيضاً لجهة ضعف بنية مؤسسات الدولة والفساد المستشري في مفاصلها، والأوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة والتعقيد. إن السبب الرئيس في اعتبار غالبية الجنوبيين أن تجربة الوحدة مع الشمال قد فشلت مرده إلى أن دولة الوحدة لم تحقق مبدأ المواطنة المتساوية بين الجنوبيين والشماليين، وانحراف نظام صالح نحو ممارسات دموية لتصفية الكيانات السياسية في الجنوب، وعدم مراعاة الاختلاف في التكوين والعلاقات المجتمعية بين دولتي الشمال والجنوب قبل الوحدة، وتغليب المكون السياسي الشمالي للدولة المهيمن عليه قبلياً، وخنق أي توجهات لقوى مجتمعية مدنية تتمرد على حكم القبيلة ودورها. وتشجيع ثقافة العنف القبلي بتضخيم دور القبيلة سياسياً، إلى درجة أن القبائل الكبيرة في الشمال صارت تتصرف وكأنها دولة داخل دولة. بينما تضعضعت العلاقات القبلية في الجنوب، في ستينيات القرن الماضي، لصالح تشكيلات مدنية، ونجحت الدولة في الجنوب قبل الوحدة على تفكيكها بدرجة كبيرة. ناهيك عن غياب دولة القانون، وقمع الحريات العامة، والإرهاب الفكري والسياسي، وممارسات الهيمنة القسرية على مواطني محافظات الجنوب. غير أنه بالمقابل سادت نظرة غير صحيحة لدى قادة المكونات السياسية في الجنوب، مفادها أن المكونات السياسية الشمالية لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى نظيرتها الجنوبية، فرغم صحة تطور البنى السياسية الجنوبية وضعف الشمالية، إلا أن ذلك كان يتطلب الانفتاح على الآخر في سياق المعالجة، وتأمين الشروط اللازمة لنجاح الاندماج الاجتماعي، باعتباره مفتاحاً لتطور الكيانات السياسية. لكن الأخطاء التي ارتكبت من الجانبين منعت توافر تلك الشروط وحرفت الوحدة إلى صدام دموي عام 1994، مازالت آثاره تعصف باليمن. كما أن الحكم على نحو مطلق بأن المكونات السياسية في الجنوب كانت أكثر تطوراً واستقراراً من نظيرتها في الشمال حكم تعوزه المصداقية، نظراً للصراعات الدموية بين أجنحة الحكم في الجنوب قبل الوحدة، ما يؤكد أنه كان لدولة الجنوب إشكالاتها الخاصة وإن من طبيعة مختلفة عن إشكالات دولة الشمال. وإذا كان التجاذب حول قضية الوحدة أحد العناوين الرئيسية للأزمة التي عصفت باليمن، وأحد أسباب الثورة على نظام حكم علي عبد الله صالح، تبقى قضية دولة الوحدة والحفاظ عليها مقياساً لنجاح مؤتمر الحوار الوطني اليمني.