عندما يتبنى حزب سياسي نهجاً عنصرياً تجاه أحد مكونات المجتمع، فإن ذلك يخلق ثقافة عنصرية لدى أعضاء ذلك الحزب, ويؤسس لثقافة كراهية لطالما كانت اليمن محصنة ضدها. أصابتني الدهشة والرعب في نفس الوقت بعد مجزرة الأمن القومي بحق المتظاهرين والمعتصمين سلمياً بالقرب من مقر الجهاز. لم تكن دهشتي بسبب فظاعة الجريمة, فذلك نهج الأمن القومي منذ تأسيسه, فقد كان مقراً لأبشع عمليات التعذيب والإخفاء القسري بحق الآلاف خلال عقد واحد منذ إنشائه, ولم تكن حادثة إخفاء وتعذيب الصحفي محمد المقالح إلا واحدة من تلك الجرائم, وإن ذاع صيتها بسبب شهرة الضحية, لكن بقية الضحايا من المنسيين تعرضوا لما هو أبشع من ذلك بكثير. مصدر دهشتي ورعبي هو موقف بعض القوى والتيارات السياسية، وعلى رأسها حزب التجمع اليمني للإصلاح, فقد كان واضحاً في عنصريته تجاه الجريمة, أيد الجلاد وتبنى وجهة نظره، بل ودافع عنها باستماتة, لا لشيء إلا لكون أغلب الضحايا من فئة اجتماعية معينة, وحتى أكون أكثر وضوحاً, بسبب انتمائهم لتيار فكري يعتقد الإخوان أن دولتهم قامت على أنقاض دولة ذلك التيار, ولن تستمر إلا باستمرار إقصائه وقمعه. لطالما اتهم الإخوان المسلمون في اليمن (الإصلاح) مخالفيهم في الرأي من شباب الثورة ومثقفين من مختلف التيارات، بأنهم "أمن قومي"، ولطالما شنوا هجوماً على هذا الجهاز، وأنكروا شرعيته, ووصفوه بأنه جهاز عائلي قمعي لحماية النظام, وبين ليلة وضحاها، وبعد أن كان هذا الجهاز حفرة من حفر النار, أصبح روضة من رياض الجنة, لأنه قتل وسحل وسجن وجرح شباباً أبرياء سلميين من تيار يختلفون معه. وحتى لا يكون كلامي عاماً، سأضع بعض الأمثلة المحددة بين يدي القارئ الكريم، ليتبين عنصرية الإصلاح, التي لم تصدر من أعضاء بسطاء أو هامشيين, إنما من أهم قياداته, بل ممن يقودهم اليوم في مؤتمر الحوار, وهو عضو الهيئة العليا للإصلاح محمد قحطان, حيث إنه وعند وقوف هيئة رئاسة المؤتمر والمؤتمرين لقراءة الفاتحة ترحماً على أرواح الضحايا, جلس مكانه كالصنم، وأغلق فاه، ولم يحرك حتى شفتيه، أو يرفع يديه مجاملة, وعند تشكيل لجنة تحقيق وانتداب رئاسة المؤتمر لبعض الأعضاء لتمثيل مؤتمر الحوار في اللجنة, عبر قحطان عن اعتراضه جملة وتفصيلاً على الأمر، بل وكتب ذلك على الورقة التي وقعتها هيئة الرئاسة, ولدي نسخة منها. كم هو الفرق هائلاً بين موقف الإصلاح وموقف الحزب الاشتراكي الذي أصدر بيان تنديد بعد ساعات من ارتكاب الجريمة, مع أنه حصل في نفس اليوم مشادة بين الدكتور ياسين سعيد نعمان وبعض المحسوبين على ذلك التيار في مؤتمر الحوار, لكن الحزب تعالى على تلك الخلافات الطارئة, وعبر من ثقافته الحقيقية المبدئية الثابتة الرافضة لتلك الجرائم بغض النظر عن انتماء الضحية. سقط في المجزرة أكثر من 100 ضحية ما بين شهيد وجريح, وأثبتت مقاطع الفيديو والصور أننا أمام مجزرة مروعة, كل ضحاياها من طرف واحد, سقط بعضهم بالتعذيب بعد اعتقالهم, وجثة إلياس الشامي شاهدة على تلك الجريمة المروعة, وقيام الأمن القومي بتسليم الجثث الى المستشفيات الحكومية خلسة في جوف الليل بعد أيام على الجريمة يثبت روايات التعذيب ومحاولة تقليل عدد الضحايا, عبر القتل بالجملة وتسليم الجثث بالتقسيط. أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً أدانت فيه بوضوح الأمن القومي، وحملته المسؤولية, بينما تبنت وسائل إعلام الإصلاح وناشطوه تلك السياسة الممالئة للأمن القومي في الجريمة، والمدافعة عن روايته التي لم يتمكن من إثباتها ولو بجرح سطحي في أحد الجنود. إن ذلك الموقف يعتبر جريمة أقبح من الجريمة الأصلية, لأن ذلك سينقل المعركة من معركة بين نظام أمني قمعي وبين مكون شعبي, الى معركة بين مكونات شعبية, وذلك أخطر ما يواجه النسيج الاجتماعي لأية دولة. عندما يحس مكون شعبي أن هناك مكوناً آخر يبيح سفك دمه وسجنه وسحله، ويقف مع الجلاد, لا لشيء، إلا لأنهم مختلفون فكرياً, فإن ذلك يؤسس لثقافة كراهية عميقة داخل المجتمع, وينقل المعركة من كونها معركة سياسية الى معركة طائفية. لقد لمست إحساساً بالرعب لدى تلك الفئة التي نالها أغلب الضرر من الجريمة, وإحساساً بالرغبة في التوحد تجاه ذلك التيار الآخر الذي برر قتلهم, وأصبح لزاماً عليهم التمترس وراء ذلك التيار الذي قاد المظاهرات، ليس اقتناعاً من الجميع بخطابه السياسي أو الديني, لكن لأن الطرف الآخر -بموقفه العنصري منهم- لم يُبقِ لهم طريقاً آخر, وحشرهم في الزاوية.