من المؤسف أن تكون الحكومة اليمنية آخر من يعلم بنية الحكومة البريطانية عقد مؤتمر دولي في لندن يكرس لمكافحة "الإرهاب" وتعزيز الجهود الدولية للقضاء على تنظيم "القاعدة" في جزيرة العرب الذي يتخذ من اليمن مركزاً إقليمياً لنشاطه "الإرهابي" ومنطلقاً لتنفيذ مخططاته وتهديد الأمن الإقليمي واستهداف المصالح الدولية في أنحاء متفرقة من العالم –بحسب تعريف وتصنيف الدوائر الأمنية (الاستخباراتية) الأميركية والغربية- المؤتمر الذي دعا إليه رئيس الوزراء البريطاني براون الأسبوع الماضي بعد أيام على تنفيذ الحكومة اليمنية عدة ضربات استباقية على مواقع وعناصر ل"القاعدة" في اليمن أسفرت عن مقتل وجرح العشرات من عناصر "القاعدة" ومواطنين مدنيين واعتقال عشرات آخرين بالتنسيق المسبق مع (الاستخبارات) الأميركية، كما جاءت دعوة براون بعد أيام على المحاولة الفاشلة للمواطن النيجيري فاروق عبد المطلب بتفجير طائرة أميركية فوق مطار ديترويت قادمة من أمستردام عشية عيد الميلاد، وتشير المعلومات إلى أن فاروق يحمل جواز سفر متخماً بالتأشيرات البريطانية والأوروبية، ولديه تأشيرة دخول الأراضي الأميركية (متعددة) ولمدة عامين.. وأنه جاء إلى اليمن لدراسة اللغة العربية في معهد متخصص في صنعاء بتأشيرة دخول للأراضي اليمنية منحت له بشفاعة التأشيرات التي تغطي صفحات جواز سفره وخصوصاً الأميركية، والبريطانية. وبحسب نائب رئيس الوزراء (رئيس اللجنة الأمنية) الدكتور رشاد العليمي في مؤتمر صحافي الخميس فإن فاروق عبدالمطلب حصل على المواد المتفجرة التي استخدمها في محاولة تفجير الطائرة الأميركية في ديتوريت من وطنه نيجيريا وليس اليمن وفقاً لتصريحات المدعي العام الهولندي، حيث تجري هولندا تحقيقاً من جانبها على اعتبار أن فاروق استقل الطائرة الأميركية من مطار (أمستردام) وليس من مطار صنعاء بالطبع.. وبحسب تصريحات العليمي فإن فاروق جنده تنظيم "القاعدة" في بريطانيا حيث كان يقيم في لندن ويدرس في إحدى جامعاتها.. ولم تتلق السلطات اليمنية أي إشارة أو تحذيرات من السلطات البريطانية أو الأميركية حول نشاط فاروق أو تصرفاته المريبة رغم تلقيها بلاغاً من والد فاروق في نيجيريا قبل عدة أشهر حول تغير في طباع وسلوكيات نجله أثارت لديه شكوكاً بأنه بات يحمل أفكاراً متطرفة.. وكشف العليمي عن معلومة مهمة في المؤتمر الصحافي تمثلت في أن فاروق التقى أنور العولقي المطلوب من واشنطن وزعماء "القاعدة" في نفس الموقع الذي قصفته القوات اليمنية في محافظة شبوة نهاية العام الماضي.. وكانت عديد صحف بريطانية تحدثت الأسبوع الماضي عن تحذيرات بريطانية بعثتها لواشنطن حول فاروق عبد المطلب قبل محاولته تفجير الطائرة الأميركية في ديترويت، غير أنها لم تكشف عن توقيت هذه التحذيرات. وفي ضوء هذه التطورات حول تنظيم "القاعدة" في اليمن ومحاولة المواطن النيجيري فاروق عبد المطلب تفجير طائرة أميركية استقلها من (أمستردام) إلى ديترويت بعد أكثر من أسبوع على مغادرته اليمن.. تعرض هذا البلد إلى أكبر حملة تهويل إعلامية في شتى أنحاء العالم في تاريخه المعاصر.. السفارتان الأميركية والبريطانية تغلقان أبوابهما في صنعاء، تبعتهما اليابان، وبعض السفارات الأوروبية لأسباب أمنية ومخاوف من هجمات "إرهابية" قد ينفذها "القاعدة" في حين لم تتلق هذه السفارات أي تهديد مباشر وتخضع لحماية أمنية جعلت منها حصناً حصيناً محصناً برجال الأمن من حولها وحواجز أمنية فرضت على الشوارع المحيطة بها وعربات مصفحة وطقوم عسكرية وجدران إسمنتية وعناصر (استخباراتية)، كل هذا لتأمينها من أي تهديد. وأصبح كل مواطن يمني يسكن بقربها أو يحاول الاقتراب من أسوارها أو حواجزها أو يخطئ في عبور شوارعها أو ينظر إلى أبعد من مراكز حراسها إما رهن الاعتقال أو المراقبة وإما مفقود مفقود مفقود أو مشبوه بالانتماء ل"القاعدة" وكأن كل مواطن يمني "إرهابي" وكل الأراضي اليمنية موطن آمن ل"الإرهاب" حتى يثبت العكس. ومن بين كل هذا الضجيج العالمي (بامتياز) حول خطر "الإرهاب" القادم من اليمن خرج رئيس وزراء بريطانيا ليعلن عن تبني بلاده بعد التشاور مع واشنطن لعقد مؤتمر دولي يهدف إلى محاربة تنظيم "القاعدة" في اليمن في إطار الحرب الدولية على "الإرهاب" وحدد براون يوم 28 الشهر الجاري موعداً لانعقاد المؤتمر. والعجيب في الأمر، بل وما يبعث على الاستغراب والريبة أن الحكومة اليمنية كانت آخر من يعلم، وهي في حقيقة الأمر علمت مثلنا من وسائل الإعلام والفضائيات بإعلان براون قرار (وليس مبادرة خاضعة للتشاور مع الطرف المعني وهو الحكومة اليمنية) عقد المؤتمر وموعده وربما جرى الاتفاق بين لندنوواشنطن على تحديد الأطراف والجهات المشاركة في المؤتمر وجدول أعماله بدون تشاور مسبق مع الحكومة اليمنية وفقاً للأعراف والتقاليد الدولية المتعارف عليها في العلاقات بين الدول، وأعني هنا العلاقة المتكافئة. جاءت دعوة براون في وقت تتعرض فيه الحكومة اليمنية لضغوط دبلوماسية وإعلامية وأمنية وتهديدات دولية باعتبار اليمن بين الدول الفاشلة، قال براون ذلك صراحة أو هكذا قصد في تصريحاته الأخيرة حول مبررات دعوته لعقد المؤتمر في لندن، وكأنه يشير إلى أن الحكومة اليمنية فشلت في محاربة "القاعدة" وأن مؤتمر لندن سيبحث في بدائل فاعلة لمحاربة تنظيم "القاعدة" في اليمن تتبناها أطراف دولية مثل أميركا وبريطانيا، ويتم فرضها على الحكومة اليمنية التي يتوجب عليها أن تقبل بإملاءات مؤتمر لندن، وهذا يناقض تماماً قاعدة الشراكة بين الدول ولا يتفق –إن صح هذا التفسير- مع تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد عمليات الحكومة اليمنية ضد "القاعدة" الأخيرة بأنها شريكة أساسية في مكافحة "الإرهاب" وأنه يتوجب دعم اليمن في التغلب على مشاكله الداخلية بحيث يتمكن من القضاء على نشاطات "القاعدة" وتواجد "الإرهابيين" على أراضيه. الصحافة ووسائل الإعلام وتقارير صادرة عن مؤسسات ودوائر حكومية ومستقلة دولية، لا تتورع في تشبيه اليمن مثل أفغانستان أو ترشيحه ليكون أفغانستان أخرى في المنطقة.. وهذه صورة بشعة وغير منطقية أو منصفة عن بلد مثل اليمن يدفع ثمن فقره وعجز موارده الاقتصادية وإمكانياته المتاحة في توفير احتياجات شعبه في مشاريع التنمية، والتغلب على الفقر، والبطالة، والأمية.. اليمن يدفع ثمن تجاهل جواره الخليجي الغني بأكبر مخزون نفطي في العالم، ولعقود طويلة لم يحصل اليمن على دعم جيرانه بما يتناسب وأهميته لأمن واستقرار المنطقة وما حصل عليه اليمن أقل كثيراً مما ينبغي أن يحصل عليه باعتباره الجار الأولى أن تمتد إليه يد العون من جيرانه الأثرياء وباعتباره يمثل طرفاً مهماً ومؤشراً في المنظومة الأمنية (الاستراتيجية) لجواره المتمثل في دول مجلس التعاون الخليجي، غير أنه وللأسف خضع لشروط قاسية ربما قصد بها حرمانه من الدعم الذي يستحقه من جيرانه، وبالتالي ساهمت –ولا تزال- مشاكله الاقتصادية في استمرار أزماته الداخلية. وفي اعتقادي أن كل هذه الضغوط الخارجية على اليمن مبرراتها أزماته الداخلية وكلاهما خلق مبررات استبعاد الحكومة اليمنية كشريك أساسي لتكون الطرف الأضعف في مؤتمر لندن الذي دعا إليه براون أخيراً، وبالتالي قبولها بهذا الوضع اتكالاً على تفسيرها بأن دعوة براون هدفها عقد مؤتمر دولي يكرس لدعم الحكومة اليمنية لجهة تمويل برامج التنمية، وتحسين الوضع الاقتصادي ودعم المؤسسة العسكرية والأمنية بالإمكانيات التدريبة والتسليحية والوقوف إلى جانب اليمن لمواجهة التحديات الراهنة، بحيث يتمكن من القيام بدوره في مكافحة "الإرهاب" والقضاء على عناصر تنظيم "القاعدة" في جزيرة العرب المتواجدين على الأراضي اليمنية. وحيث نتمنى أن يكون "التفسير" الذي ذهبت إليه الحكومة اليمنية هو بالفعل دافع الحكومة البريطانية في إعلان براون عقد مؤتمر دولي في لندن.. وإذا ما تجاوزنا مسألة التشاور المسبق مع الحكومة اليمنية من قبل الطرف الداعي للمؤتمر رغم أنها عنصر مهم في تصديق حسن نوايا براون لجهة اليمن، فإننا نسأل الحكومة اليمنية عن طبيعة المشاورات والاتصالات التي أجرتها مع الحكومة البريطانية منذ إعلان براون وحتى اليوم.. ما هي التوجهات الرئيسة لمؤتمر لندن والأهداف المرسومة له سلفاً، وقبل هذا وذاك هل شاركت الحكومة اليمنية أو أخذ برأيها في جدول أعمال المؤتمر والأطراف التي سيتم دعوتها للمشاركة في فعالياته.. وهل أعدت الحكومة اليمنية برنامجاً مفصلاً ومتكاملاً يتضمن أوجه الدعم الذي يحتاج إليه اليمن تقدمه للمؤتمر كورقة أساسية وشرط لنجاح أهدافه باعتبارها الطرف المعني بالأمر.. أم أن صنعاء آخر من يعلم بما يدبر لها في لندن؟؟ وفي هذا السياق يتوجب على الحكومة اليمنية أن تدرك بأن الغرب حين يطلق وعوداً فإنه يضع شروطاً في مقابلها.. وهو يتطلع إلى تنفيذ شروطه من قبل الدول الضعيفة قبل أن يبحث مسألة الوفاء بوعوده.. وعليها أيضاً أن تدرك بأن الغرب وأميركا في المقدمة عادة ما يكون مبهوراً لأطروحات الدول المعنية بمصالحه وبأمنه وباهتمامه عندما تعتمد هذه الأطروحات على برامج وخطط وآليات مفصلة ومرتبة ومدروسة في إطار المصالح المتبادلة والشراكة الفعلية في توفير الوسيلة لتحقيق الهدف. إن "الإرهاب" موجود في كل زمان ومكان وهو يأخذ أشكالاً وصوراً وأفكاراً عديدة ومختلفة متقاطعة ومتباينة.. واليمن دولة يتواجد على أراضيها عناصر تنتمي لتنظيم "القاعدة" الذي تخوض أميركا وحلفاؤها حرباً ضروساً عليه في أفغانستان، والعراق، والصومال، وباكستان، وتطارده في كل بقعة من العالم، وتنفق مئات المليارات من الدولارات منذ أحداث 11 سبتمبر في سبيل القضاء عليه وتنشر وحدات من نخبة جيشها وأساطيلها وطيرانها وعشرات الآلاف من رجال "المخابرات" والمخبرين والعملاء في أنحاء العالم للقضاء على خطر "القاعدة".. تخوض حروباً.. وتقتل الأبرياء، وتستقبل نعوش أبنائها وتراقب الشواطئ والصحاري والجبال والوديان والمطارات، وترصد يومياً ملايين المكالمات الهاتفية تملأ الفضاء بالأقمار الصناعية وتنشئ القواعد العسكرية شرقاً وغرباً، والهدف هو تحقيق الانتصار على تنظيم "القاعدة" في الحرب على "الإرهاب". المواطن النيجيري فاروق عبد المطلب كان اليمن إحدى محطاته ربما للتزود بفكر "القاعدة" الذي يدفعه للانتحار، لكنه تزود بالمتفجرات في بلده نيجيريا.. وانضم ل"القاعدة" في بريطانيا، وتمكن من اختراق كل وسائل المراقبة الحديثة والمتطورة وهو يطوف نصف العالم عبر عديد مطارات عربية، وإفريقية، وأوروبية، حاملاً عبوات الموت والدمار و"الإرهاب" قبل أن يصل به الرحل فوق سماء ديترويت ويفشل في تفجير الطائرة الأميركية التي كان على متنها القادمة من أمستردام (قلب أوروبا)، كانت عناية الله من أفشلت محاولته وأنقذت أرواحاً بريئة ثم كانت يقظة بعض ركاب الطائرة الذين تمكنوا مندفعين بالخوف من الموت تدميراً للسيطرة عليه وليس إمكانيات أميركا وحلفائها من أفشل محاولة فاروق عبد المطلب المواطن النيجيري الذي لم يكن دافعه الفقر، وهو ابن رجل ثري وينتمي لأسرة مرموقة في المجتمع النيجيري. اليمن لم ينتج فاروق النيجيري ولم ينتج فاروق الإرهابي.. وعلى واشنطن أن تبحث مع لندن كيف أصبح فاروق الطالب في إحدى جامعاتها إرهابياً في "القاعدة" وكيف تمكن من اختراق كل هذه الإجراءات والجدران الأمنية ليصل إلى هدفه الكارثي. واليمن ليس بلداً خصباً لإنتاج عناصر "القاعدة" أو تفريخهم لتدمير العالم وتهديد الأبرياء وتخويف الأجواء وتفجير الطائرات والمدن.. اليمن لا يزال أحد ضحايا "الإرهاب" وصناعه، ولا بد أن يتخاطب العالم مع اليمن كشريك في مكافحة "الإرهاب" وأن لهذا الشريك حقوقاً وسيادة يجب احترامها وأن يوفر له شركاؤه ما يحتاج إليه من إمكانيات للتغلب على أزماته ومواجهة التحديات المحدقة به. هذه هي الشراكة التي يريدها اليمن وليس الشراكة التي يكون فيها آخر من يعلم!!