تختلف الرقابة الذاتية عن الرقابة الإدارية وللإنسان الاختيار، فعندما يكون الفرد المسلم في موقع اتخاذ القرار وله القدرة والتمكن من أن يعمل الخير ويلتزم بكل ضوابط العمل، أو يعمل الشر ويتنكر لكل الضوابط، في هذه الحالة فقط يكون الاختبار حيث يقف المسئول حائرا بين أمرين الأمر الأول هل يلبي رغبات نفسه فيرتشي ويخضع للمحسوبية والمجاملة ويسلب المال العام ويخون الأمانة ؟ أم يلتزم بما ألزمته عقيدته وإسلامه وواجب الوظيفة ويرضي ربه فيكون أمينا صادقا؟هل سيخشى الرقابة الإدارية فحسب أم سيستشعر الرقابة الإلهية؟. الاختيار صعب ويعتمد على قوة الايمان بالله، حيث سبحانه وتعالى خير الإنسان بين أن يختار الدنيا ويخسر الآخرة، أو يختار الآخرة والرزق مكتوب ومقدر, فإذا أيقن الإنسان أن الله يراقبه فإنه سيخشى الرقيب في كل مسلكياته، وفي نفس الوقت سيخضع للرقابة الإدارية بكل مصداقية، أما لو كان الايمان بالله ضعيفا فما أسهل التخلص من الرقيب الإداري وخدعه، وعندما يكون الله هو الرقيب فإن من يستشعر هذه الرقابة يعلم أن الله قد ترك عباده تحت حفظه وحراسته. قال تعالى: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد)(1). والرقابة في اللغة هي المحافظة على الشيء من الفساد والانحراف، لذلك يقال فلان أرقب في أهله، لأنه أكثر الناس محافظة على أهله بأن تركهم تحت حفظه وحراسته. ولذلك تختلف الرقابة الذاتية عن الرقابة الإدارية: في أن الرقابة الإدارية هدفها كشف الانحرافات ومعرفة أسبابها ومحاولة وضع العلاج المناسب, أو تحميل المسئولية القانونية من حيث الأنظمة وتنفيذها والقرارات واحترامها، وغاية الرقابة الإدارية اكتشاف الأخطاء وسوء التصرف وحالات الانحراف والتأكد من أن الموظفين لا يتمتعون بامتيازات لا حق لهم بها وأنهم يتصفون بالنزاهة والأمانة، ولأن هذه الرقابة تعتمد على ما ظهر من أعمال مخالفة، قد يكتشفها الرؤساء على المرؤوسين بوسائل متعددة، ولأنه قد يتم التحايل على الأنظمة والقوانين بوسائل متعددة ويفلت من المساءلة الغالب من الناس ضعفت أنشطة مؤسسات الدولة في أداء مهامها، وكانت نتيجة التستر على المفسدين أن عمت الرشوة والمحسوبية ونهبت الأموال العامة، وأدى كل ذلك إلى انهيار الاقتصاد، واستمرار ظاهرة العبث الإداري والولاءات الضيقة في تحديد شاغلي الوظيفة العامة وممارستها، وتدني مستوى الأداء الوظيفي وتضخم أجهزة السلطة. والأصل أن تحقق الرقابة الإدارية مصلحة للسلطات الإدارية نفسها، التي ينبغي لها أن ترضي المجتمع، كي تستمد عونهم في تحقيق أهدافها، لذلك كانت الرقابة الإدارية أكمل أنواع الرقابة وأكفأها لحماية الفرد من تعسفات أفرادها متى ما وصل إلى رئاسة الأجهزة الرقابية والإدارة العامة أصحاب الكفاءة وأصحاب الضمائر الحية، والذين تتسم رقابتهم على مرؤوسيهم بصفات العدل والإنصاف والقوة في فرضها، أما إذا وصل إلى المناصب الإدارية كل منافق أو مغامر فإنها تظهر المحسوبية ومراكز القوى التى تتصارع على مصالحها الشخصية وتهمل مصالح الوطن(2). أما الرقابة الذاتية فالمقصود بها أن يراقب الإنسان نفسه بنفسه في قوله وفعله في نيته ومقاصده في تصرفاته، وأساس الرقابة الذاتية ينبع من مفهوم المسئولية الفردية والأمانة والعدل، ولأن الإسلام يربي الفرد العامل بأداء الأمانة في كل شيء ومنها الوظيفة العامة، لقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فإن أداء الأمانة يفرض على المسلم العامل أن يتقي الله في عمله وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره، وأن يراقب الله في أعماله، لقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (3) ولقول الله سبحانه وتعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) (4).وبهذه التربية والتي توصل إلى الخوف من الله في السر والعلن تنمي الرقابة الذاتية لدى الفرد والإحساس بالمسئولية والسعي نحو الإخلاص في العمل، لأن الله سبحانه وتعالى يراه ويسمعه وسوف يحاسبه وفي ذلك يقول تبارك وتعالى (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)(5). وهذا الأسلوب من الرقابة يعتبر أملاً منشوداً في الأنظمة والأفكار الإدارية الوضعية، بل أصبحت تنادي به الأبحاث السلوكية في الدراسات الإدارية باعتبارها نوعاً من الرقابة الفردية التي لا يمكن تحقيقها إلا من داخل الفرد نفسه(6). ولأن الرقابة الذاتية قد تضاءلت، بضعف الوازع الديني لدى الفرد، ولأن الإيمان بالله والخوف منه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، لذلك فإن حث الأفراد بصورة مستمرة على طاعة الله والخوف منه، هو الوسيلة المثلى للرقابة الذاتية. والخلاصة أن الرقابة الإدارية أصبحت ميسرة بل ومرنة بل وأجهزتها متعددة إلا أنها عند ضعف الوازع الديني لم تحقق أهدافها، لأنه أصبح من النادر من يعترف بأخطائه ويرجع إلى الحق من باب الفضيلة وتحقيق المصلحة العامة. فقد تتمسك سلطة الإدارة بالتصرف رغم علمها بعدم مشروعية العمل خوفا على مصالحها الخاصة، واعتقاداً أن التراجع عن القرارات له تأثير على هيبة الإدارة، بل يتراءى لها أن في الخروج على الأنظمة والتحلل من القيود المفروضة عليها ما يمكنها من تحقيق أهدافها الخاصة، ونتيجة لهذا التحلل كانت الأخطاء والفشل والإفلاس وخيبة الأمل وأزمة إدارية تكترث فيها التعقيدات والروتين وتعطل المصالح المشروعة. وكانت النتيجة أن اتجه أناس إلى الرشوة والتزوير لكي يقضوا مصالحهم المشروعة. عميد كلية الحقوق جامعة تعز 1 ) سورة المائدة ، آية 117 . 2 ) دكتور أحمد شوقي الفنجري : الحرية السياسية أولا : دار القلم الكويت : الطبعة الأولى 1973 صفحة 21 3 ) رواه مسلم في كتاب ، الأبحاث باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان رقم (8). ورواه أيضاً في الباب نفسه أبو هريرة رضي الله عنه رقم (9 ، 10) ، انظر كتاب الأربعين النووية ، للإمام / يحيى بن شرف الدين النووي ، عام 676ه ، مؤسسة عالم القرآن ، بيروت ، ص 20 . 4 ) سورة الإسراء : آية رقم (13 - 14) . 5 ) سورة آل عمران : آية رقم (5) . 6 ) الدكتور / عبدالهادي حسن الهمداني وآخرون ، الأصول العلمية للإدارة ، ، ص 76 .