في كل عواصم المحافظات لم تعد النظافة البيئية هي المشهد الملفت للأنظار، ولا المتسولون، ولا عمالة الأطفال .. بل تلك الفرق التي تطارد أناساً في الطرقات فيظن المرء أنهم لصوص، أو ارهابيون حتى يقال له أخيراً ان الطريد ليس إلا بائعاً متجولاً ضبطته البلدية يبيع سلة برتقال على ناصية شارع! المشهد بحد ذاته مقزز ومنفر، ولا يوحي بأية ظاهرة حضارية عندما تقدم مجموعة من الرجال الخشنين على مطاردة فتى، أو شاب يافع في شوارع المدينة، وفي تقديري ان هذا المظهر هو الأسوأ من مظاهر عدم نظافة الشوارع،لأنه يوحي لمن لا يعرف اليمن بأن هناك أجهزة استبدادية تطارد المواطنين وتفتك بهم. القصة ليست في هروب البائع وملاحقة رجال البلدية له .. ولكن يجب ان نسأل : لماذا يهرب البائع من رجال البلدية هل لأنه مخالف، أم لأن البلدية إذا ظفرت به لن ترحمه !؟الحقيقة هي تلك التي نعرفها، ونشهدها بأعيننا يومياً ونحن ذاهبون إلى أعمالنا، والتي تقول : ان رجال البلدية يبتزون الأسواق ويقومون بجولات يومية على باعة الأرصفة والفرشيات «البسطيات» يجمعون منهم الأتاوات التي ترخص لهم بمواصلة البيع في ذلك المكان .. أما أولئك الذين تطاردهم في الشوارع فهم المتمردون على دفع الأتاوات حيث أنهم يأتون من قراهم إلى مراكز المدن لبيع سلة أو اثنتين من البرتقال، أو البطاط، أو بعض السلع البسيطة التي يسهل حملها .. ويجدون ان ربحهم الكلي لا يتعدى الثلاثمائة إلى الخمسمائة ريال في أفضل الأحوال في الوقت الذي تطلب منهم البلدية دفع مائتين إلى ثلاثة.. وبالتالي فإن ليس من المعقول ان يتقاسم الطرفان الأرزاق في وقت ترقب المزارع محصوله لموسم كامل حتى أوصله إلى هذا الرصيف الذي يطارده عليه رجل البلدية. قبل أسبوع تقريباً كنت شاهد عيان على رجال البلدية في أمانة العاصمة عند مدخل سوق باب السباح .، حيث أصرَّ أحدهم على أمرأة عجوز كانت تضع أمامها ثلاث دجاجات بلدي وبعض البيض البلدي أيضاً بأن تدفع له مائة ريال حق استخدام الرصيف .. رأفت لحال المرأة وحاولت التوسط لدى البلدية بأن تعفيها، ولكن لم تنفع شفاعتي لها، بل أمسك رجل البلدية بقصعة «النيدو» الكبيرة التي تحتوي البيض وهدد بتكسير البيض إن اصرت العجوز على الرفض أخرجت له مائة ريال فرفض أخذها وأصر ان تدفعها العجوز التي ما لبثت ان استسلمت للأمر ودفعت وهي صاغرة وتدعي عليه بالويل والثبور! عندما تسأل البلدية عما يفعلونه يتذرعون بأن هؤلاء يخلّفون بعدهم النفايات والأوساخ فيشوهون نظافة المدينة ويقولون بأن مسئوليهم في العمل سيحاسبونهم ان لم يتشددوا مع الباعة المتجولين.. وغالباً ما تنتهي القصة باحتجاز بعض الباعة في أماكن تحتفظ بها البلدية لهذا الغرض .. ولن يخرجوا منها إلا بعد دفع الغرامات المضاعفة وبدون سندات ولا محاضر رسمية. أحياناً يقول البعض ان هذا النظام متبع في كل دول العالم.. ونحن نتفق معه، ولكن ليست بقية الدول تشابه اليمن بظروفها وعاداتها، وخصوصياتها.. فنحن في مجتمع زراعي، ونعاني من الفقر نتيجة ضعف موارد بلدنا الطبيعية كما نعاني من ارتفاع نسب الجهل .. وتعرض بلدنا إلى موجات ارهابية بسبب تضليل الشباب واغوائهم على خلفية الفقر والجهل .. وفي الوقت الحاضر نحن بأمس الحاجة إلى مكافحة الفقر والجهل قبل مكافحة الباعة المتجولين فهؤلاء الشباب ان استمرت أجهزة البلدية في مطاردتهم في كل المدن سيبحثون عن أعمال تدر عليهم بأرزاقهم بعيداً عن أنظار البلدية، وأجهزة الأمن والمجتمع نفسه .. بدءاً من تجارة المخدرات والتهريب وأعمال السوء والارهاب وغيرها.. فهم مضطرون للبحث عن لقمة عيشهم أينما كانت ما دام الرزق الحلال مطارد. قبل أيام انتحر شاب يدعى محمد الشعيبي في حجز تابع لأشغال أمانة العاصمة وهو بائع متجول ضبطته البلدية.. ومن خلال القصة التي روجتها الصحف الرسمية وليست المعارضة فهمت ان الشاب كان متوتر الاعصاب وجن جنونه حين حرمته البلدية من البيع، وهذا يعني أن وضعه المعيشي كان في غاية السوء وربما لديه من الظروف ما تضعه في هذا الحال المتشنج. حقيقة شعرت بألم موجع للغاية وأنا اتابع قصته، لأننا كلنا سبق ان مررنا بظروف مماثلة وكنا لا نطيق أنفسنا حين نعجز عن الايفاء بالتزاماتنا.. وحينها سألت نفسي هل يمكن «القانون» ان يجرد الفرد من إنسانيته إذا افترضنا أن احتجازه كان قانونياً !؟ وهل فكر الإخوة في البلدية لماذا هذا الشاب متوتر إلى هذه الدرجة !؟ ولأنهم تجاهلوا التفكير بغير أنفسهم انتحر الشاب وخسرت أسرته معيلها، وخسر الوطن أحد أبنائه .. فيما ظلت فرق البلدية تجوب الطرقات بحثاً عن المزيد من الضحايا ومن غير ان يمنعها أحد من مواصلة الابتزاز وفرض الأتاوات وقطع الأرزاق في بلدٍ ما زال يجاهد للخروج من خنادق الفقر القاتلة، في زمن نضطر فيه جميعاً لشراء الروتي والخبز بالغرامات وليس بالكيلوات كما هو حال بقية أرجاء العالم فمن يوقف هؤلاء وأجره على الله !؟