استطاع العلم حل الكثير الغالب إن لم نقل كل المشكلات والمعضلات التي اعترضت حياة الإنسان على مر العصور وهو الآن في ذروة ثورته على هذه المشكلات والمعوقات وقد تراجعت كثيراً أمام تقدم العلم في مختلف المجالات، وهذا العصر يوصف بأنه عصر العلم والمعلوماتية والتقنية والسباق الأسرع في كل الاتجاهات رأسياً وأفقياً.. وبالرغم من هذه السرعة المهولة في التقدم العلمي إلا أن العلم ومن ورائه المعرفة والثقافة لم يستطع هو بذاته ولا المعرفة أو الثقافة كمصطلحات شائعة كثيرة الرواج وواسعة الانتشار في هذا العصر، وضع حد لمشكلات وقضايا أسهل في وجودها وحلها أو معالجتها من مشكلات نجح العلم ونجحت المعرفة والثقافة في تجاوزها بصورة أو بأخرى. ماعجز عنه العلم يتنافى وجوده في الأساس مع العلم كسلوكيات واخلاق واهتمام، وبقاؤه أوجد حالات من التناقض الصارخ في مشاهد عدة نزعت الثقة بالعلم والمعرفة والثقافة، هذا التناقض الذي يُعد جوهر الاخفاق والفشل لايقتصر على العلاقات الدولية كمنظومة واحدة يتجسد فيها النجاح والفشل وهي المثال الأكبر والأوضح لحالات الاخفاق ،وللتناقض بين النجاح والفشل ،ولخطوط التقاطع الباقية بين الحالين. مسألة التناقض بحد ذاتها تعد مشكلة محسوبة على العلم سلباً إذ لايمكن الحديث عن عصر للعلم والتقدم بينما هناك مجتمعات غارقة في البدائية والأمية ،والمشكلة تكمن في أن العلم أو الثورة العلمية على دراية بهذا الحال، فكيف يمكن تفسير هذا الوضع؟ ومن ناحية أخرى كيف يمكن فهم حالات التناقض بين مجتمعات غارقة في الرفاهية وبذخ العيش بينما مجتمعات كثيرة تموت من الجوع والمجاعات وكل هذا يحدث في حضرة العلم والتقدم والقيم التي يفترض أن تكون حاضرة معه لكنها لاتحرك ساكناً؟ ألم يعجز العلم والقيم المصاحبة له عن التخلص من الاستغلال الذي يحكم علاقات المجتمعات والدول ببعضها وعلاقة الإنسان بالإنسان وكثيراً مايكون أحد الانسانين عالماً وهو من يقوم باستغلال الآخر بغير وجه حق، وفي ذات الوقت عجز العلم وعجزت القيم التي يدعيها ادعياء العلم والمعرفة في ايقاف الظلم الذي يمارسه الاقوياء علمياً واقتصادياً على الضعفاء والمستضعفين في الأرض؟ إن الأمر المؤسف له حقاً أن التناقض بين سلوكيات العلم وسلوكيات سواه لاتقتصر على العلاقات الدولية كما اسلفنا لكنه امتد إلى المجتمعات الصغيرة داخل الدولة الواحدة ليمارس بعض أفراد المجتمع استغلالهم وظلمهم على البعض الآخر وعلى وجه الاطلاق فإن البعض الظالم المستغل هو صاحب العلم والمعرفة والمال وعندما يقف العلم شاهداً وتقف قيم العلم والمعرفة شاهدة على حال كهذا فإن المشكلة تستعصي على الحلول !! إذا لم يكن هو الحكم فمن يستطيع أن يحكم فينصف؟ وإذا لم تكن القيم والاخلاق والضمائر السليمة هي الرادعة لكل التجاوزات والظلم فمن يكون الرادع؟ كان التحضر هو خيار المجتمعات البدائية للخروج من تلك الاوضاع والتشريعات التي كانت تحكم المرحلة، فلم يجد الإنسان من خيار سوى اتباع الرسالات السماوية لتنظيم حياته أولاً وعلاقته عمن حوله بعد ذلك أو بالتزامن وحثت الرسالات السماوية على العلم والمعرفة فسلك الإنسان بذلك طريق العلم حتى وصل إلى ماوصل إليه اليوم، غير أن ماحدث خلال هذه الرحلة هو الاهتمام بالعلم بعيداً عن القيم والاخلاق التي لاتنفصل بأي حال عن العلم والتحضر، لكن من المؤسف والاخلاق قد حدث، ولهذا عجز العلم أن يحل القضايا المتعلقة بالاخلاق في كثير من الاوقات ،ولما كان الاستغلال متعلقاً بالاخلاق ومثله الظلم والقتل فقد عجز العلم. وإن تقدم ووصل إلى كل الكواكب وعالج كل الأمراض وتخطى كل المشكلات المادية فإنه لن يفعل شيئاً في جانب الاخلاق والسلوكيات، ولهذا بقيت السلوكيات أسيرة النزعات والمصالح الانانية التي لارادع لها لدرجة أصبح صاحب السلوك يُشرع لنفسه مايفعل وفق الأهواء والنزعات معتقداً بصحة مايقول ومايفعل وربما اعتقد أن ذلك مايأمره به دينه إن كان له دين وإن لم يكن فدينه هواه، والأول لا يختلف عن الثاني طالما كان الهوى وكانت النزعة هما اللذين يسيران الإنسان وإن ادعى الأول أن له دينا يتبعه أو سمّاه. ومن جملة الممارسات التي عجز عنها العلم الكذب، ربما استطاع العلم ان يكتشف الكذب ومن يكذب لكنه لم يستطع ان يمنع الكاذب من ممارسة سلوك الكذب كل يوم ،ولافرق في هذا بين عالم وجاهل، غير أن كذب العالم وكذب المتعلم أكثر بشاعة وأكثر إضراراً !! ومن العجيب أن الكذب صار سياسة في هذا العصر المتحضر! ولم يستطع العلم أن يضع حداً للخيانة وللحقد اللذين يتنامىان كل يوم وللكراهية التي تستشري وللعمالة التي تسرق ثروات الشعوب النامية ولماهو أدنى من ذلك وكلها سرقات وقف العلم والحضارة والمعرفة موقف العجز أمامها ،والسبب أن طريق العلم لم تقترن بطريق الاخلاق وهكذا أراد لها من أراد..!!