عضو مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يلتقي قيادات التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن الفطري.. قراءة أنثر بولوجية (1-2)
نشر في الجمهورية يوم 05 - 10 - 2010


مدخل انثر بولوجي
يبقى الإنسان وما أنتجه منذ نشأة الخليقة والى الآن ، موضع تأمل ودراسة من قبل الكثير من العلوم التجريبية والبرهانية على حد سواء ، وأصبحت الاختلافات بين تلك المجتمعات التي ينتمي إليها الإنسان في الشكل واللون والعرق والتقاليد والجنس والديانات والفنون وغير ذلك من مظاهر الحياة مصدراً ثراً لإغناء الحضارة الإنسانية ، لتؤكد لنا إنسانية الإنسان ، المتشكلة عبر تاريخ المعرفة حتى اكتشاف خارطة الجينات الوراثية Genome وقد تقصت الكثير من الدراسات الانثربولوجية قصة الحضارة الإنسانية ومسيرتها عبر الكثير من النتاج الذي تركه الإنسان أينما حل أو ارتحل، بغية الكشف عن الخصائص البيولوجية عبر الازمان وفي سائر الاماكن .
ومن اجل تحليل تلك الصفات البيولوجية والثقافية في واقعها المحلي كأنساق مترابطة ومتغيرة بالاعتماد على نماذج ومقاييس ومناهج اهتمت بتحليل النظم الاجتماعية والتقنيات التي كانت سائدة في كل تلك المجتمعات ، وبالتالي فإن عملية التحليل تلك كانت كفيلة بجعل الانثربولوجيون يسعون لربط وتفسير النتائج في إطار التطور البشري .
ويدخل في تلك الدراسات الانثربولوجية التي تتعلق بحضارات الإنسان القديمة والتي يشار إليها بعلم الاركيولوجيا Archeology والتي تتناول الانثربولوجيا الثقافية التي تشمل دراسة لغات الشعوب البدائية واللهجات المحلية والتأثيرات المتبادلة بين اللغة والثقافة ، كما ظهرت الدراسات الاثنولوجية Ethnology والدراسات الاثنوغرافية Ethnography في تداخل من إشكالية المصطلحين. على الرغم من أن الاثنوغرافيا كانت تهتم بالدراسات الو صفية لحياة الشعوب ومجموعة التقاليد والعادات والقيم ، والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية في مجتمع معين .
أما الاثنولوجيا فقد اهتمت بالدراسات التحليلية والمقارنة للمادة الاتنوغرافية بهدف الوصول إلى تصورات نظرية تكشف عن مختلف النظم الاجتماعية الإنسانية .
وتبرز هنا أهمية الدراسات الاثنوغرافية التي كشفت عن الدور الذي لعبته الفنون على مر التاريخ الإنساني وابتداء بما كان يطلق على أولى تلك الصور والأشكال والرموز التي كان الإنسان الأول يزين بها جدران الكهوف كطلاسم وطقوس دينية تارة ورموز لنوع من الكتابات الصورية ( أول نتاج للفكر الإنساني ) .
إنها الرسوم البدائية أول المصطلحات التي توارثناها عبر العديد من الدراسات التحليلية
والتي اكتسبت شرعيتها من خلال تسمية الإنسان البدائي والذي اعتمد ابسط أنواع النظم الاجتماعية وأدنى مستويات (التكنولوجيا ) الكهف والفأس والصيد .... الخ .
ويقول إشلي مونتاغيو : ( اعتدنا نحن المنتمين إلى آخر عهود التطور الإنساني ونحن نمعن النظر من أعالي مدنيتنا التي هي تحتاج إلى إمعان النظر من اعالي مجتمعنا الذي ننتمي إليه أن ننظر إلى كل ما مر قبلنا باعتباره يقل تقدما كلما تقادم عهدا ، وما دمنا آخر من يحمل مشاعل التطور الإنساني فإننا نستنتج إننا أكثر الناس تطورا ، وهذه النظرة للتطور باعتباره شيئا يسير في خط مستقيم واسع الانتشار ، يعتقد الكثيرون أنها تتفق وحقائق النشوء البيولوجي ) .
لكن العمليات التطورية في الحقيقة لا تسير في خطوط مستقيمة بل في خطوط متشابكة ، ويشمل ذلك تطور الإنسان جسديا وحضاريا .
غير إن رأينا بالمسار المستقيم لتطور الإنسان يبلغ من قوته إن مفاهيمنا حول التقدم والتطور والنشوء تجعلنا نفترض تلقائيا أن ما تطور بعد غيره في الزمن ، لابد ان يكون أكثر تقدما ورقيا مما تطور قبله ، ثم قادنا هذا إلى استنتاج منطقي هو أن ما كان اقل تطورا جاء قبل ما هو أكثر تطورا ، لذا كان الأقدم أكثر بدائية والأحدث أكثر تقدما وما دام التطور في خط مستقيم أمر تسلم به الكثرة من الباحثين ويعتقد به الكثير من الناس ، فإن النتيجة هي أن من هم أكثر تقدما لابد أنهم أكثر تطورا ممن هم اقل تقدما ، وليس هذين الأمرين متطابقان ، بما أن ذلك حقيقة واقعة رغم أن العكس حصل أحيانا خلال عملية الارتقاء ، فقد صار من السهل علينا أن نفترض إن ما تطور بعد غيره ليس هو الأكثر ارتقاء فحسب ، بل الأفضل أيضا ، وكلمة الأفضل هذه في نمط التفكير العلمي تنحى منحى تقويميا وتقترن بالكثير من المزا لق التي لا يسلم منها الباحثون ، وهذه هي الإشكالية التي وقع بها الإنسان المتمدن بخصوص من يحلو له أن يدعوهم (بدائيين ).
لاشك أن هذا المدخل الانثربولوجي يعد ضرورة لتفسير ما أطلق على أولى صور الفنون التي أنتجها الإنسان في سلسلة حلقات التطور الفكري والمادي بالفن البدائي ومن ثم اقترنت هذه التسمية فيما بعد بالفن الفطري رغم كثرة ما فيهما من اختلاف وتباين .ولأن الحصيلة الفكرية في وعي الأفراد والجماعات على شكل منظومة متكاملة من ( القيم الروحية والمعرفية والجمالية والأخلاقية ) تشكل بمجموعها كلا مترابطا ندعوه ( النسق القيمي )
وقبل تناول ما اتفق أو اختلف من آراء وأفكار حول كلا المصطلحين ضمن هذا النسق فإن منهجية التفكير العلمي تقتضي حل الإشكالية التي أثيرت حول مفهوم التطور في الفنون عامة وبين ما اصطلح عليه فنا بدائيا ، وفنا آخر أكثر تطورا ،.
وهنا نقول ورغم اختلاف مستوى الوعي الإنساني وتطور مقدرته في التعبير عن مراحل ذلك الوعي ، بأن مراحل تطور الفكر تظهر بصورة اشد في العديد من العلوم البرهانية ( الفيزيقية ) حيث تزيح كل نظرية جديدة النظرية التي سبقتها وإذا جاز لنا أن نعبر عن ذلك كما شبهه إبراهيم زكريا : بمبنى متعدد الطوابق فإن المشتغلين بهذه العلوم لا يسكنون إلا في آخر الطوابق ( آخر النظريات ) بينما تبقى النظريات القديمة مجرد ركائز وأسس للطوابق الجديدة، أي أن هذه العلوم إنما تتجه في نموها إلى الامتداد العمودي في حركة تطورها ونموها .
أما الحال و العلوم التجريبية ، في الفن والفلسفة والدراسات الاجتماعية ... الخ فإن حركة نموها وتطورها تتخذ امتداداً أفقيا بحيث لا تلغي آخر النظريات أولها وهو ما نشهده اليوم بالحاجة إلى قراءة فلسفة سقراط وأفلاطون رغم مضي بضع آلاف من السنين عليها ورغم العديد من المناهج الفكرية والفلسفية الكثيرة التي أعقبتها ، وكذلك في الفن فان الكثير من الأساليب والمدارس الفنية الحديثة غالبا ما كانت تجنح إلى إعادة إنتاج الأساليب القديمة وفنون الكهوف والمجتمعات البدائية في العصور الحديثة ، أي أن حلقات التطور لم تكن لتفصل بين فن الأمس واليوم كما هو الأمر بين نظريات العلوم الفيزيقية وهو ما نشهده من عوامل مشتركة بين الكثير من ملامح أقنعة الزنوج والأعمال التي استلهمها بيكاسوعلى سبيل المثال . وليس بالضرورة أن تكون آخر الأساليب الفنية هي الأكثر تطورا دائما .
وهنا تبرز لدينا قيمة لحظات الصدق التي يعبر عنها الإنسان رغم اختلاف مستوى الوعي والتطور بانتمائها إلى النزعة الإنسانية في أجلى صورها ، حيث يجري تثبيت القيم والمعايير طبقا لأهميتها في المجتمع خلال عمليات الإنتاج ( المادي والروحي ) اعتمادا على كثير من التحرر والتلقائية في الكشف عن كينونة المحتوى الإنساني للفن ، وهو ما يهدف إليه العمل الفني في مختلف العصور.اعتمادا على المنظومة الفكرية التي امتصها الفرد أصلا من بيئته عبر مختلف أشكال التنشئة الاجتماعية . وعلى هذا الأساس فإن موضوعي سقوط وإلغاء الزمان والمكان على أساس القيمة الجوهرية للفن أمر ليس أكثر من محصلة نهائية يحتكم إليها الفن .
فهل الفن البدائي بدائي حقا ...؟
الفن البدائي
لاشك أن هذا السؤال ووفقا لمنطلقنا يحمل الكثير من الزيف والتناقض والاستخدام العشوائي ، لوصف شعوب ومجتمعات مختلفة الأعراق والأصول ومختلفة الزمان والمكان ، بأنها بدائية . فهل يعني هذا أن فنها هو فن بدائي ؟ . وحقيقة إطلاق المصطلح هو اقتران معرفة هذه المجتمعات بالتكنولوجيا وبمستويات متعددة . ومع أن الملكات الإنسانية الخلقية هي ذاتها في كل زمان ومكان ، إلا أن بعض تلك الشعوب والمجتمعات وجدت نفسها أمام تحديات بيئية أجبرتها للاستجابة لها في البحث عن حلول صعبة والتوصل إليها ، وهذا لا يعني أن مجتمعات أخرى بقيت متخلفة أو اقل ذكاء أو موهبة ، إلا إنها لم تواجه نفس المستوى من التحديات فكانت هذه التحديات لا تتطلب إلا ما يناسبها من الاستجابات ، ولما بقيت التحديات اقل تعقيدا ظلت الاستجابات اقل تطورا.
أما في الفن ، فإن التحديات على مستوى الشعور والانفعال ولحظات الصدق الإنسانية قائمة بغض النظر عن التطور التكنولوجي ، بل أن الكثير من التقاليد الجمالية افتقدتها المجتمعات التي خاضت غمار التكنولوجيا المتقدمة ، وبقيت المجتمعات ( البدائية أكثر قدرة على التعبير عن لحظات الالق الإنساني من خلال تواصلها مع تراثها المحلي والإنساني . وهكذا فإن فكرة التدني التي رافقت الفن البدائي يصبح إطلاقها جزافا على المحتوى الإنساني للفن .
وهناك العديد من الأمثلة على ذلك ، فعندما اكتشفت برونزيات إفي Ife في نيجيريا قال الكثير من النقاد بأنها لايمكن أن تكون من صنع الزنوج ، وربما كانت لفنانين إيطاليين أو رومان أو برتغاليين من عصر النهضة . فقد كان من الأسهل لهؤلاء النقاد ان ينسبوا هذه الأعمال إلى احد الفنانين البارزين ، من أن ينسبوه إلى شعب بدائي كالشعب النيجيري ، وهنا كيف نعزو لشعب بدائي لا يقرأ ولا يكتب ومازالت تكنولوجياته بدائية ، وثقافته بدائية مثل تلك الأساليب المتنوعة ومثل ذلك الخيال الرفيع الذي يعكسه ذلك الفن ، وهكذا بدا مصطلح الفن البدائي غامض الدلالة أو فاقدها.
أن اعتبار الفن لغة حية غير لفظية توصلنا إلى نتيجة ، هي أن كل تلك الفنون مهما اختلف منشؤها أو أساليبها تحاول عبر رموزها وشفراتها توصيل تلك المفاهيم اللغوية بقدر كبير من الصدق والموضوعية .
وفي ذلك كتب ديفس : ( بما أن الفنون كاللغة جزء من وسائل الاتصال الكلية التي تتكون منها الثقافة ، فقد يجدر بنا أن نتبع مثال علماء اللغة في دقة المنهج ، وفي أسلوب البحث ، وكمثال على ما اقصد أقول : لا يتحدث احد هذه الأيام عن لغة بدائية ، أو عن لغة اثنولوجية أو عرقية ، بل يستعملون بدلا من ذلك صفات تحدد مكان اللغة المعنية أو زمانها ، أما كلمة بدائية فقد أسقطت من الاستعمال لعدم وجود لغات بدائية ، كذلك فليس هناك فن بدائي ).
وان هناك بدلا من ذلك فنا جداريا وفنا هلينستيا وفنا فلورنسيا ، ولكن ليس هناك فنا بدائيا .
ويعتقد جيربراندز : إن الدراسة المستقصية لما يدعى بالفن البدائي ، ستؤدي بلا شك إلى اختفاء هذه الكلمة نهائيا.
ويقول كلاوسن : ليس هناك من الكتب الخاصة بهذا الموضوع ،ما يكشف لي عن اختلاف جوهري بين الفن البدائي والفن الأوربي ، لا من حيث الأسلوب ولا الشكل ولا المحتوى الرمزي أو الوظيفة الاجتماعية ، لهذا استنتج أننا لا نحتاج إلى اصطلاح خاص هو ( الفن البدائي ).
أما كلود روي فيقول : ( لايمكن أن يدعي أي فن فنا متوحشا إلا بالقدر الذي نشارك به في وهم الوحشية ، ولا يمكن أن ندعو أي فن بدائيا ، إلا إذا نسينا صلتنا بكل من عبر بالرموز والصور ، عن مشاكلنا الإنسانية المشتركة في الحياة والفكر وهكذا فإن كل الفن الذي أنتجه الإنسان مع اختلاف الزمان والمكان فهو ما يصح أن نطلق عليه فن الإنسان.
الفن الفطري
تمثل الحكايات والأساطير والخرافات أثارا مهمة في تكوين البنية الثقافية للموروث الشعبي الذي يعتمد عليه النتاج الفني لما نسميه بالفن الفطري ، وهي مؤشرات فذة وفريدة تشهد على العصر الذي ولدت فيه ، عندما كان الوعي البشري في تداخل شفاف ووحدة بهيجة مع الطبيعة ، حيث كان الوعي يخضع العالم لروحيته المستيقظة التي لم تستطع في البدايات أن تكون محددة أو محدودة . بل كانت تتمتع ببراءتها وسلطتها على الأشياء غير مثقلة نفسها بردود الفعل حول مدى التوافق بين تصوراتها والأشياء الحقيقية ، ومهما تكن هذه الفكرة ساذجة ، فإنها تشكل جوهرا رفيعا حرم منه الوعي الأكثر عقلانية في تطوره اللاحق ، مما جعل الوعي العقلاني عاجزا رغم كل المحاولات عن أن يلغي هذا النشاط الحر للمخيلة ، أو أن يكون بديلا عنه ، وبالتحديد فان حاجة الإنسان في حياته وليس عبر الصيرورة التاريخية للبشرية إلى فرض سلطته المباشرة ، على الطبيعة والعالم ، استمرت تغذي نفسها بثمار الخيال الحر ( الحكايات والخرافات والمعجزات . هذه الصلة السحرية بين ألانا والعالم وهذا الامتزاج وفرض الذات على العالم مباشرة ، هو التعبير عن حلم الإنسان وعن هدفه العظيم الذي يحققه في إنتاجه الحضاري . إن الأشكال الفنية الأولى تتصف بعدم التمييز بين المجتمع والطبيعة ، أو أي من الظواهر الاجتماعية والطبيعية المجردة والحسية ، أو بين العقلاني والعاطفي ، لأن هذه المجالات والجوانب لم تتمايز بعد بصورتها النهائية .
وهكذا فان أول أشكال التعبير ، وما يتصل به من خطوات الوعي الأولى ، تتجلى أمامنا جوهر الصورة في طورها الأدق وبنيتها الأكثر عمومية ، والتي هي بالتالي عديمة المضمون ، وعليه فان نمط الأشكال سيكون منبثقا من الفرد والكل داخل الكيان الاجتماعي ، وتمثل بنتاج كبير وهائل من الإنتاج الفني الأدبي والسردي والقصصي والأسطوري والشعبي والعديد من المصنوعات والمشغولات اليدوية والتراثية ، طبعت جميعها ، بل جبلت على ما يمكن أن نسميه البساطة والتلقائية وأحيانا السذاجة الظاهرة في إعادة استيعاب وإنتاج التراث المحلي من خلال القدرة على التعبير عنه .
انه نوع من الجمال النابع من السجية التي لم تشوهها الأحداث والنظريات وتقنيات العصور فاكتفت بعاملي البساطة والصدق . وغالبا ما تنطلق العديد من هذه التجارب الفطرية لتتجاوز ما هو مقبول أو محظور ضمن قواعد اللعبة الفنية وتقنياتها فتدهشنا في طرحها وسحرها . ورغم أن السمة البارزة عليها أنها ذات طبيعة تخص الثقافة المحلية والتراث الشعبي بحكم انتماء فناني هذه الأعمال إلى فئات اجتماعية شعبية ، وهي ضرورة تؤصل هذه التجارب وتغنيها إلى حد بعيد ، فإن العديد منها كان يلتقي مع المحتوى الإنساني لجوهر الفن وأهدافه .
إننا عندما نهم بالتعريف بالفنون الفطرية إنما تبرز أمامنا تلك المنحوتات الفخارية للآلهة السومرية أو المنحوتات في الحضارتين المكسيكية والصينية القديمة ، أو نتاج سكان استراليا الأصليين أو الهنود الحمر ، والتي تتميز بتلقائية كبيرة في صياغة لغة الشكل والتعبير عن مكنوناته .وما زالت تنظر إلى وجودها على الأرض نظرة ملآى بالسر وقد ملاه هذا السر على الخروج على نظام الطبيعة . وهذا يعني إن التجربة الإنسانية الجمالية ( البدائية ) وبطريقة فطرية ابتدأت مع الإنسان مع أولى نزعاته الفكرية وطقوسه التي كانت تحتم علية البحث عن لغة للتعبير عن علاقته بالبيئة والمحيط .في اللحظة التي تتعرى النفس من سريتها أو تفرض عليها إرادة الإنسان التعري من أي قيود ترسمها معرفته المكونة ، وليس من شك بان البيئة كانت من أهم العوامل التي حددت ملامح كل الفنون التي أنتجها الإنسان على مر العصور باعتبار أن الفن وليد البيئة بكل ما تشتمل عليه من ظروف وطقوس وأخطار وتحديات ، فكان الفن لغة للإفصاح عن أولى تلك الغرائز والرغبات المكبوتة التي كانت تسعى لأن تجد لها متنفساً تحقق من خلاله وبواسطة اقرب المواد والخامات التي كانت في متناول اليد .
إن ارتباط فكرة الفنون الفطرية بما يسمى بالفنون ( البدائية ) تكتسب الكثير من مشروعيتها التاريخية والحضارية ليس على أساس مستوى البساطة والتقنية التي قامت عليها وإنما لاشتراكهم في نفس المعين الذي نهلتا منه ، وان كنا لا نهدف إلى أن يكون للفن الفطري ذلك الإطار الذي يحجبه عن الفنون بصورة عامة . لأن التساؤل الذي يواجهنا هو :
هل التقى فن الكهوف بعد هذا الزمن السحيق بفنون ما بعد الحداثة باعتبار أن المصدر الإنساني واحد ؟
وهل يمكن إلغاء تأثير كل حلقات التطور التكنولوجي وما سببته من تنامي درجة الوعي لدى الإنسان الحديث على إنتاجه للعمل الفني ؟
وهل يمكن الوصول بنا إلى غاية الحداثة في ( التركيب الخالص ) الذي نادى به كاندنسكي ، والارتقاء إلى عالم من الأشكال والأصوات والمعاني الحرة والسامية التي لا تخضع لقواعد خارجية سواء كانت دينية أو اجتماعية ، بصرية أو أسلوبية ، قد تلتقي أو تتقاطع مع فطرة الإنسان ونشاطه الفكري والجمالي .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.