نظام الإدارة المحلية هو النظام الأمثل للتنظيم الإداري للدولة، وهذا النظام يقتضي البعد عن المركزية وتوزيع المهام بين سلطات الحكومة المركزية والسلطات اللامركزية .. ومن ذلك إنشاء شرطة محلية تخفف العبء عن هيئة الشرطة المركزية ، ورغم أن هذا الرأي أصفه بأكثر من جريء إلاّ أنني أعتقده وأبرره ، أعتقده ليس كباحث فحسب بل عايشت الوسط الأمني فترة طويلة من الزمن بحكم عملي كضابط في الشرطة. وقبل أن أبرر رأيي أبين أن معظم الدول التي منحت السلطات المحلية اختصاصات واسعة احتفظت بالطابع القومي (المركزي) لإدارة الشرطة كفرنسا بهدف وحدة الكيان الأمني للدولة وما تفرضه أعمالها من مركزية في المعلومات وسهولة في الاتصال ، بل أن كثيراً من الباحثين من يعتبر مرفق الأمن من المرافق السيادية التي تؤثر على وحدة الدولة وسيادتها إن وزعت سلطاته بين الحكومة المركزية والإدارة المحلية ، وقالوا بأن الشرطة لا تقبل نشاطها ولا أهدافها التقيد بحدود اقليمية ، بل ولعدم قدرة الأنظمة غير المركزية في المحليات أو الأقاليم تمويلها للنفقات الباهظة التي تكلف العمل الأمني من إعداد وتدريب وتمويل ، وعندما يمول من خزانة الدولة يكون قادراً على أداء رسالته بصورة مستقلة عن تبعية الأشخاص أو لأحزاب ودون حدود جغرافية. فيما أن بعض الدول قد جعل أمر إدارات الشرطة معقوداً للهيئات المحلية أساساً واكتفت السلطة المركزية على مهام الرقابة والاشراف كما هو في بريطانيا. وإذا كان ذلك هو التباين في موقف الدول من لا مركزية الشرطة فإن الجمهورية اليمنية بخصوصياتها وتضاريسها وتركيبتها الاجتماعية تجعلنا نجزم بضرورة تبعية بعض وظائف الشرطة للسلطة المحلية للمبررات التالية : أولاً : أثبت الواقع أن المواطن اليمني هو أكثر اهتماماً بتحقيق أمنه واستقراره فأغلب الجرائم يتم كشفها والتبليغ عن مرتكبيها بواسطة المواطنين .. ولذلك نقول لا تخوف من إسناد بعض عمل الضبط بشقيه الإداري والقضائي للسلطة المحلية ولا خوف على سيادة الدولة واستقرارها من ذلك، لأن بلوغ الدولة السيادة والاستقرار بالفعل لا يستوجب اعتمادها للوسيلة كهدف في حد ذاته ، بل يقتضي الأمر حين يتأكد استقرارها أن تتجه إلى تطوير أسلوبها على النحو الذي يتفق وظروفها المستقرة .. واليمن اليوم والحمد لله دولة مستقرة وتفرض الدولة القانون على كل شبر فيها. ثانياً : إن من أسباب التخوف من تكوين شرطة تتبع السلطة المحلية أمران : الأمر الأول هو : امتلاك هذه المؤسسة حق امتلاك السلاح المتوسط والخفيف. الأمر الثاني هو : حق استخدام القوة المشروعة ، فالأمر الأول منتفي بامتلاك أغلب المواطنين هذا النوع من السلاح. وأما التخوف من حق استخدام القوة المشروعة واستغلالها دون القانون فالمعالجة تكون بالرقابة من الشرطة المركزية على الشرطة اللامركزية لمنع استغلال السلطة الشرطية اللامركزية لتحقيق مزايا خاصة أو حزبية. ثالثاِ : اللامركزية الإدارية هي ليست هدفاً بحد ذاتها ولكنها شكل من أشكال التنظيم الإداري في الدولة ، وهي أداة تواصل وتكامل بين الإدارة المركزية للشرطة والمجالس المحلية في الوحدات الإدارية ، وهي تبقى أو تتغير أو تزول بقدر ما تعكس حاجات المواطنين للأمن وتستجيب لرغباتهم وتحقيق مطالبهم وأمانيهم ، لذلك كان رأي الأخ الرئيس الصالح صائباً عندما وجه بالمشاركة الشعبية في إدارة مرفق الأمن من خلال التنظيم المحلي وإقامة جسر متين من العلاقات فيما بين التنظيم الشرطي المركزي والتنظيم المحلي المشارك في ممارسة العمل الأمني ليكفل انتفاع كل منهما بما يمتلكه الآخر من امكانيات في سبيل بلوغ الأهداف ، ومن خلال إسناد بعض صور النشاط الأمني للمجالس المحلية كالمرور والبحث الجنائي والضبط الإداري ماهو إلا إلزام أعضاء المجالس المحلية بتحمل مسئولية العمل الشرطي كجزء من نشاطهم. رابعاً : العلاقة التي تربط أجهزة الشرطة بالمجالس المحلية هي وحدة الهدف ، فالهدف المشترك هو تحقيق رفاهية الفرد والمجتمع ، والأمن بمعنى الاطمئنان وعدم الخوف هو أساس كل حركة دافعة للرفاهية وللتطوير ، فلا رفاهية ولا تقدم في حالة إنعدام الأمن ، فغاية أجهزة الشرطة تحقيق الأمن العام وغاية المجالس المحلية التطوير والتنمية المحلية، والتنمية والتطوير رهن بسلامة المواطن نفسه وحمايته وماله وكيانه ، لذلك فإن الوقاية من الجريمة واجب يقع على أجهزة الشرطة المركزية بحكم وظيفتها وواجب يقع على عاتق الشرطة المحلية بحكم مسئوليتها نحو رفاهية المجتمع وتطويره. خامساً : لكي يكون تحقيق الأمن واجب قانوني على المجالس المحلية وكجزء من اختصاصاتها فالأمر يحتاج إلى تعديل لقانون السلطة المحلية فالمادة (10- 19) جعلت اختصاصات المجالس المحلية محصواًر في مناقشة الحالة الأمنية في المحافظة وإصدار التوجيهات المناسبة التي تساعد على تعزيز الأمن والاستقرار للمواطنين وحماية الحقوق والحريات العامة والمحافظة على الأموال والممتلكات العامة والخاصة .. والملاحظ أن المشرع قد جعل لهذه المجالس اختصاصات عامة، وهذه الاختصاصات على كثرتها تدور في معظمها حول التقدم باقتراحات، أو إعداد دراسات أو اصدار توصيات وموافقات ، ولا تتضمن تقرير اختصاصات فعلية مباشرة تنفرد بها المجالس المحلية عن طريق شرطة تتبعها مباشرة ، وأكثر من ذلك هناك قصور في قانون الإدارة المحلية يتمثل في عدم قدرته على ربط العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمجالس المحلية المنتخبة مما يحدث بعض التجاوزات في المهام والاختصاصات وعدم توافق أهداف المجالس المحلية في تطوير المجتمع لربط التنمية بالأمن كمنظومة متلازمة لأنه إذا كان المواطنون عائشين في خوف دائم من الجريمة أو ضعيفي المعنويات بسبب الفساد المتفشي أو إذا كان يرهبهم التعسف باستغلال السلطة فإن هذا الحال لا يمكنهم من أن يضطلعوا بالدور المتوقع منهم في التطوير. سادساً : بما أن العمل الشرطي بتنظيمه المركزي لم يحقق كل أهدافه لعدم تمكين المواطنين من المشاركة أو لأنهم غير مستعدين للمشاركة في الحياة الوطنية وبذل الجهد في مكافحة الجريمة لذلك يصاب الواقع الأمني والنمو والتطوير للبلد بإحباط دائم ولا مخرج إلا أن يشعر المواطن بوجود جهاز يتبع السلطة المحلية وأن هذا الجهاز منه وإليه وأنه قادر على حسابه متى قصر. سابعاً : لتحقيق الأمن والاستقرار والرضا ولنفاذ الخطط والاستراتيجيات والقرارات الأمنية الصادرة من السلطة المركزية الهادفة لابد من تفعيل مشاركة المجالس المحلية في عملية التنفيذ لأن وقاية المجتمع من الجريمة عملية ايجابية كبرى شاملة لعمليات مترابطة في مجالات اجتماعية محددة ، وأن الجريمة نشاط شرير مؤذ متعدد الأوجه، وهذا التعدد الخاص بالجريمة يؤكد ضرورة وجود نصوص واضحة الدلالة على التكامل بين الأجهزة المركزية واللامركزية وترابطها ، باتباع نظم مترابطة يحدد الواجبات والصلاحيات والعلاقات لكل من أجهزة الشرطة المركزية والشرطة المحلية ، وعلى ذلك يتطلب الأمر وجود نصوص في قانون السلطة المحلية وقانون هيئة الشرطة يحددا علاقة المجالس المحلية بمرفق الشرطة ، وبوضع الضوابط التي تكفل مواءمة أعمال المجالس المحلية وتصرفاتها للصالح العام وفيما يخدم تحقيق الأمن وتهيئة إحلال القانون محل الأعراف والتي بها تمارس الأعمال الأمنية في كثير من المناطق اليمنية وخطوة نحو استكمال تواجد أجهزة الدولة في جميع المديريات من خلال اشتراك المجالس المحلية بعد منحها قانون صفة الضبطية القضائية والإدارية وهو أمر تحتمه الحاجة في مواجهة الجريمة والتشتت السكاني للتواجد الأمني في ربوع اليمن. ثامناً : عند وجود شرطة محلية فإن الأمر يقتضي تدريبهم من قبل إدارة التدريب بوزارة الداخلية ومن التدريب كيفية الربط والتواصل على تنفيذ الخطط المرسومة من قبل وزارة الداخلية والمتعلقة بمكافحة الجريمة وتزويدهم بأهل الخبرة ،وكذلك استيعاب الطاقات الاجتماعية في إطار الأجهزة الشرطية المحلية والمركزية وتوجيهها لخدمة تحقيق الأمن وتأكيد سيادة واستقرار الدولة داخلياً والحفاظ على الوحدة الإدارية للدولة. تاسعاً : بوجود شرطة محلية سيتم إشراك الفاعلين والمؤثرين بالوحدات الإدارية وبالمناطق البعيدة عن المديريات بالمشاركة في إدارة الشرطة إما عن طريق المجالس المحلية أو عن طريق تجنيدهم في الأجهزة الأمنية بالتعيين وفي ذلك اشغال لهم بما يخدم تحقيق الأمن. عاشراً : سياسة الشرطة في وضعها الحالي أوصلها إلى فقد ثقة الجمهور بها ، لأنه لا يكفي مجرد تحقيق التواجد الأمني أو مقداره إذ يظل إحساس المواطنين بمصداقية جهود أجهزة الشرطة لصالحهم ونفعهم أكبر الأثر في خلق تعاونهم معها وثقتهم بها وهو مالا يتأتى إلا عن طريق المشاركة الفعلية في إداراتها. الحادي عشر : قانون هيئة الشرطة في وضعه الحالي تم فيه تركيز السلطة في يد وزير الداخلية أو في من يمثله في المحافظة وهو مدير الأمن مما نتج عنه تعقيد في الاجراءات وبطء في إنجاز الأعمال، ومن ثم إضعاف المسئولية ،ولأن زيادة دور الأجهزة الأمنية وتشعب وظائفها في الحياة العامة وما يتطلب منها من خدمات عامة لتحقيق النظام العام يجعل من المستحيل على الشرطة المركزية تحقيق النجاح المطلوب وبالسرعة المطلوبة ، نظراً لأن حصر سلطة البت في يد مدير الأمن من شأنه أن يطيل الاجراءات اللازمة لإصدار القرارات كما يؤدي إلى تزاحم الأعمال والقرارات ويؤدي نظام المركزية في الشرطة إلى اصدار القرارات الخاطئة ، ذلك أن وزير الداخلية أو مدير الأمن سوف يعتمد في اصدار قراراته على المعلومات التي ترفع إليه من المرؤوسين ، وهي معلومات قد تكون غير صحيحة أو غير وافية ، ويقتصر دور الرئيس لجهاز الشرطة على مجرد الموافقة على هذه القرارات مع كونها مبنية على أسباب غير كافية وقد لا تتلاءم مع المنطقة التي ستنفذ فيها القرارات ، فتكون هذه القرارات معيبة. وفي الأخير لابد من التنويه أن منح السلطات المحلية إدارة المرافق الأمنية يمكن أن يؤدي إلى نتائج سيئة إذا لم تهيأ لها الظروف الملائمة بالتغيير المرحلي للامركزية لإدارة الشرطة وأن تأخذ الظروف الموضوعية لكل محافظة بعين الاعتيار. - عميد كلية الحقوق جامعة تعز