ثمة لغز يحيرني وملايين مثلي،يستعصي «خشره» كما لو كان حجر صوان في صلابته،ربما لأنه ذو طابع أسمنتي خرساني،يُثقل الأدمغة،وعبثاً تحاول فكه ،فهو أعصى على الفكاك..إذ كيف يغدو «الأسمنت» وهو صناعة وطنية وفيرة المادة الخام،سلعة تخضع لتقلبات السوق العالمية وأسعار صرف الدولار،فترتفع أسعاره مقابل انخفاض المستورد،ودونما مبرر على هذا النحو السافر المستفز...كيف؟!! بدأت صناعة الاسمنت في بلادنا قديماً جداً،وتذكر المصادر التاريخية أن اليمنيين كانوا يصهرون “الرصاص” بين حجارة أعمدة وأساسات السدود والمعابد ،واستعملوا “القطران”في مباني السواحل درءاً للرطوبة وتسرب المياه للأساسات، واستعملوا محل الاسمنت مادتي القضاض«خليط طحن الهشاش مع النورة بعد حرقها» والبوميس«تراب بركاني ذو خاصية تماسكية عالية تُضاف إليها مادة الجير كنسبة تصحيحية». كما استخرج اليمنيون أيضاً من المواد الداخلة في صناعة الاسمنت الحديث،الجص «الجبس» من حرق الحجر الجيري،واستخدموه في البناء كمادة تكميل وتجميل لكسوة الجدران، مثلما كانوا وما يزالون يصنعون طين البناء باختيار تراب مميز يشبه ما يُعرف اليوم المعادن الطينية «رمال سليكات الألمنيوم المائية» ورمال الزجاج «السليكا» ،واستخدموه مجففاً شمسياً «اللبن» ومحروقاً «الياجور» ومخلوطاً بالتبن «الزبور». وفي العصر الحديث جاءنا الغرب بتقنيات حديثة لإنتاج الأسمنت بكميات صناعية،فاستوردنا تقنياتهم مع بداية 1973م،لكن المواد الخام ظلت وطنية يمنية متوافرة بكثرة في محافظات صنعاء،عمران،تعز،الحديدة،مأرب، أبين ،لحج ،حضرموت، شبوة ..وغيرها من المناطق اليمنية ذات التركيبة الصخرية الغنية بخامات إنتاج الأسمنت مثل :الحجر الجيري،والبوزلانا،والجبس، ورمال السيليكات،والمعادن الطينية «سليكات الألمنيوم المائية»...الخ. وفقاً لهيئة المساحة الجيولوجية والثروات المعدنية فإن احتياطي بلادنا من:الحجر الجيري والدولوميت«13.5مليار م3» ،والجبس«391مليارم3» ،ورمال السليكا«أكثر من 6مليارات م3» والمعادن الطينية (120مليون م3) وأسكوريا (613مليون م3) والتف والأجنمبرايت «345مليون م3» غير مستغل بعد في صناعة الاسمنت،والحجر الخفاف «البيوميس» احتياطي توافره«أكثر من مليار متر مكعب » ومستغل جزئياً في صناعة البلك فقط. ولهذا كان طبيعياً ياسادة أن تشيد في هذه المناطق مصانع باجلوعمران والبرح للأسمنت،وأن تدشن انتاجها بقدرات انتاجية سنوية تبلغ حسب الترتيب أيضاً:«250» و«500» و«480» ألف طن ،قابلة للزيادة بزيادة عدد خطوط الإنتاج «المكائن» في كل مصنع من المصانع الثلاثة الوطنية مع التشديد الوطنية،كلما استدعت الحاجة وارتفع الطلب المحلي على هذه السلعة الجامدة مادة،الحيوية أهمية وأثراً في الحياة. كذلك كان طبيعياً نتيجة جودة المواد الخام الوطنية لهذه الصناعة الوطنية، أن يحوز الأسمنت اليمني شهرة واسعة،ويظل متصدراً أفضلية الطلب،متجاوزاً بفراسخ في الجودة والرواج الأسمنت العربي والأجنبي،حتى ولو سُمح باستيرادهما إلى اليمن،فإن المفترض بحكم فارق وطنية المواد الخام وجودتها العالية ورخص الأيدي العاملة المحلية،أن يظل الاسمنت اليمني أقوى من المنافسة،بجودته الأعلى وأسعاره الأقل،من الأسمنت المستورد. لكن الحاصل،وهذا هو اللغز،هو العكس من هذا المفترض الاقتصادي ،فمع تحرير السوق واستيراد الاسمنت ظلت اسعار الاسمنت اليمني في تصاعد غريب، وبعدما كان سعر كيس الاسمنت المحلي550 ريالاً والمستورد 680ريالاً عام 2001م ،صار 630ريالاً لليمني و648ريالاً للمستورد في 2002م ثم 818ريالاً لليمني و835ريالاً للمستورد عام 2003م ،لتنقلب القاعدة في 2004م ويصبح سعر الاسمنت اليمني 1020ريالاً والمستورد 938ريالاً!! لم تكن هذه المفارقة الغريبة نتاج ظرف عارض،وإلا لما استمرت في 2005م،فارتفع الاسمنت المحلي إلى 1230ريالاً وظل الاسمنت المستورد يجاريه وبسعر أقل 1168ريالاً للكيس ،وفي 2006م أصبح الاسمنت المحلي 1300 ريال والمستورد 1200ريال،وبعد اجتياح موجة ارتفاع الأسعار السوق المحلية ،كان سعر كيس الأسمنت المحلي 1500ريال والمستورد 1300ريال. وأصبح اليوم 1700 ريال للمحلي و1500المستورد!! ربما عزا البعض هذه المفارقة إلى ارتفاع الطلب المحلي على الاسمنت وعجز المصانع الوطنية الثلاثة عن تغطية الطلب بنسبة%60كان لابد أن يؤمنها الأسمنت الخارجي الذي سرعان ما تراجعت كمياته المستوردة في العامين الماضيين وهذا العام ،ولكن عجز المصانع الوطنية الثلاثة المملوكة للدولة عن تغطية احتياج السوق المحلية،لايبرر استغلال ارتفاع الطلب ،لصالحها،وقيام مؤسسة الاسمنت برفع أسعار انتاجها،الذي يظل وطني الخامة والعمالة ،ولا جمارك عليه. ثم إن مسألة ارتفاع الطلب المحلي على الاسمنت ،مبالغ فيها كثيراً،صحيح أن حركة العمران محلياً ظلت في اتساع خلال نفس الفترة،لكن اتساعها ليس إلى تلك الدرجة التي تستهلك معها جملة ما تنتجه المصانع الوطنية وجملة كميات الاسمنت المستوردة،والبالغة مجتمعة بحسب احصاءات النشرة الاقتصادية للمركز الوطني للمعلومات«2.737.000»طن عام 2002م،و«3.166.000»2003م و« 3.300.000» 2004م ،و«3.079.000» طن 2005م. هذا لأن معدل نمو حركة العمران وفقاً لنفس الاحصاءات الرسمية ،لايوازي معدلات ارتفاع كمية الاسمنت «المحلي والمستورد» وبحسب احصاءات الجهاز المركزي للإحصاء ،فإن اجمالي عدد رخص البناء بلغت:«6142» رخصة عام 2002م ،و«5726» 2003م ،و«7815» 2004م ،و«7260» عام 2005م علماً أن قرابة نصف رخص كل عام كانت لترميم وإضافة،والنصف الآخر رخص بناء جديد،وليست جميعها بناءً مسلحاً «خرسانياً». فهناك رخصة بناء طين،وبناء حجر مع طين ،وبناء خشب،بلغت«682» رخصة عام 2002م ،و«357»2003م و«510» 2004م ،و«713» 2005م علاوة على أن نمو عدد المساكن والمنشآت في الجمهورية لم يتجاوز %29بين تعداد العام 1994م «2.198» مليون مسكن ومنشأة» وتعداد العام 2004م «2.834» مليون مسكن ومنشأة» ما يجعلنا أمام شك يرقى إلى اليقين بأن الانتاج المحلي للأسمنت،لايوجه كاملاً إلى السوق المحلية. لعل ما يرجح عندنا أن جزءاً كبيراً من الانتاج المحلي للاسمنت يوجه إلى أسواق دول شرق افريقيا غالباً هو أن بداية ارتفاع أسعار الأسمنت المحلي عن أسعار الاسمنت المستورد عام 2004م ،حدث في وقت كانت زيادة كمية الاسمنت المستورد إلى السوق المحلية تحتم ثبات سعر الاسمنت المحلي أقل من الاسمنت المستورد،لا أن يرتفع 200 ريال في الكيس دفعة واحدة مقابل 100ريال فقط زيادة في سعر الاسمنت المستورد!!.. وسواء صدق ظننا أم لا،فإن أكثر ما نخشاه أن يكون التصدير هو هدف استثمارات القطاع الخاص المحلي والسعودي والأجنبي في صناعة الاسمنت ببلادنا،فهناك الآن 7مصانع أسمنت قطاع خاص «يمني سعودي أجنبي» يجري تنفيذها في محافظات :أبين ، حضرموت ،لحج ،ذمار،الحديدة،والجوف ،تبلغ تكلفتها الإجمالية نحو 2.2مليار دولار،ويتوقع أن «تساعد في ارتفاع الانتاج المحلي بحلول عام2010م إلى مايقارب سبعة ملايين طن سنوياً» لكن الخوف ،حيال هذا التوجه الاستثماري اللافت بقطاع صناعة الاسمنت في بلادنا ،هو أن تستغل هذه الاستثمارات وفرة المواد الخام ورخص الأيدي العاملة والاعفاءات الضريبية محلياً،مقابل نفس النتيجة التي عكسها نمو إنتاج مصانع القطاع العام الثلاثة للاسمنت:عدم إشباع حاجة السوق المحلية،وبقاء أسعار الأسمنت المُنتج محلياً «قطاع عام وخاص» أعلى من أسعار الأسمنت المستورد ،الخاضع لرسوم شحن وجمارك وغيرها من النفقات الإضافية!!..