إذا تجاوزنا هذا المصطلح بوصفه إعلاناً سياسياً وخياراً مقروناً بمطالب الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق فإننا نستطيع أن نتحدث عن السودان القادم أو الجديد بوصفه مشروعاً قابلاً للتحقيق اتساقاً مع عبقرية المكان وخصوصيته، فالسودان وعاء بشري وتاريخي حضاري يستمد قوة دفعه الأولى من الحضارات الموغلة في القدم كما انه إلى ذلك يستطرد على كامل المؤثرات والتداخلات الاثنية والثقافية التي درج منظرو الآداب السياسية على توزيعها إلى ثنائية العروبة والأفرقة “ نسبة إلى إفريقيا “مثل هذا التصنيف ينطوي على تبسيط جيوسياسي لأنه لا يضع في الاعتبار أن عرب السودان ليسوا فقط تلك المجاميع التي جاءت إلى هذه الأرض بعد ظهور الإسلام .. بل أيضاً التواجد السابق على ذلك عندما كان البحر الأحمر رابطاً طبيعياً بين شرقه وغربه وكانت الجزيرة العربية وشمال وشرق السودان ضمن سياق من التفاعل الطبيعي سواء بالمعاني الاثنية أو اللغوية .. كما أن إفريقيا كمفهوم جغرافي تتصف به القارة لا تحتمل نوعاً اثنياً واحداً، بل إنها مجال حيوي لتفاعلات اثنية وثقافية متنوعة مما يجعل الحديث عن الأفرقة الاثنية والثقافية مجازاً لا يرقى إلى مستوى الحقيقة .. غير أن النوع الزنجي يحتمل أن يشكل مقاربة اثنية بالرغم من تعدد اللغات والأديان والأوطان وذلك لمشتركات الثقافة وفلسفة الحياة الزنجية ذات الطابع الأبيقوري المفتوح على الحرية والمتعة والتفاعل الطبيعي مع الوسط المحيط. الزنوجة الثقافية تعني تلك المفاجأة السحرية المصحوبة بدهشة الأشياء .. كما تعني ذلك التطهر المقرون بالجسد وقابلياته مما ينعكس على الإشارة والموسيقى قبل الكلام والتنظير . لقد احتار بعض السودانيين حول الهوية، تماماً كما حدث مع كثرة كاثرة من الشعوب والعقول الباحثة عن هوية مقرونة بالجنس واللغة .. وقد ذهب البعض بعيداً في تعميق المفاهيم الشوفينية ذات النزعة المركزية متناسين أن مثل هذه المفاهيم تنطوي على إقصاء قسري للآخر، والحاق تعسفي للأنساق الثقافية المتنوعة بنوع ثقافي واحد . وما زاد الطين بلة أن الخطاب “ اللاديني “ الديماغوجي عزّز من هذه النزعة ولم يقدم حلولاً تاريخية ورؤية واقعية للهوية السودانية بوصفها هوية تتمازج فيها عناصر متعددة وتقدم في طياتها مشروعاً مستقبلياً لبقية البلدان المحاصرة بمرابع قبائلها وعشائرها وطوائفها الصغيرة . لا يمكن للسودان العربي المسلم إلا أن يكون أيضاً إفريقياً مسيحياً ووثنياً في آن واحد .. ولا يمكن للثقافة العربية السودانية أن تختصر مسافات الفعل المبدع والفريد إلا بالتواشج الطبيعي مع العمق المحلي الزنجي والتنوع الكبير في منازل الفكر والشعور . هذا الإدراك المعرفي والذوقي لمقدمات السودان التاريخية والواقعية من شأنها أن تكسب فكرة السودان الجديد بعداً يتجاوز المشاريع السياسية إلى المفاهيم الكلية التي تضع الهوية في أساس المواطنة .. والعقل في مربع الإقرار المسبق بالتنوع .. والفعل في إطار التحري الشامل للعوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في السودان الكبير . لقد أخفقت النخب السياسية في ترجمة هذه الحقيقة مما ورث البلاد والعباد شرور الحرب وآثامها .. كما تمرّغ المجتمع في سيئات المراتبية العرقية الخسيسة مما جعل رد الفعل المقابل موازياً في عدميته وتعصبه، حتى أن البعض من متعصبي تيار الأفرقة يعتبرون سكان السودان من غير الزنوج مجرد وافدين اغتصبوا الأرض والحقوق !!.. والأصل.. أن السودان لا يختلف عن غيره من بلدان العالم .. كما أن ما وقع من مظالم على الزنوج لا بد وأن ينجلي على أساس من المواطنة المتساوية والتشارك في تسيير دفة الأمور واستبدال ثقافة الكراهية والإقصاء المتبادل بثقافة الود والتسامح واحترام المصالح واللغات والخصوصيات الثقافية . Omaraziz105@ gmail.com