لا معنى لعروبة السودان خارج نطاق التعايش المديد بين الأنساق الثقافية والإثنية التي ميزت السودان بوصفه حالة مثلى لعبقرية الهوية العربية القائمة على التواشج والتعاطي المتفاعل مع الثقافات الأفريكانية، والشاهد أن السودان المتجدد والمتنوع إنما استرخى تاريخياً في أحضان الحقيقة المفارقة لمنطق العشيرة والقبيلة الأكثر ضيقاً،فيما كان الانتساب السلالي مقدمة أساسية للتفاعل والتساكن حتى أن «خلاسية» السودانيين أمر يتجاوز بمراحل خلاسية سكان أمريكا اللاتينية، ويشكل شاهداً تاريخياً على العمق الحضاري للثقافة العربية المحمولة على جناح التسامح والتعايش والتثاقف. في الحالة السودانية يبدو الحاضن العربي متسعاً لتفاصيل العناصر الثقافية المجتمعية المتعددة، وتتحول اللغة في مثل هذه إلى حمّالة أبعاد وتراكيب وقابليات أخرى، ذلك أن الآداب السردية السودانية العربية، وكذا فنون المعالجات البصرية والموسيقى، إنما هي روافد ثقافية تحمل في طياتها ثقافة عربية أفريكانية، فيما تختزل الآداب الدينية والتاريخية متعددة المنابع، ودونما قلق أو تخشّب. ليس السودان الحالة العربية الوحيدة، لكنها الأكثر سطوعاً في هذا البعد الذي نجد له ظلالاً في موريتانيا وجبيوتي والصومال، ما يحيل الوعاء العربي الحضاري إلى فضاءات تتجاوز جغرافياً الجامعة العربية وخريطتها التليدة الموسومة بمداد «سايكس بيكو» والمكرسة بوصفها نهاية العمق العربي في افريقيا وآسيا.