لا يشعر أهل السودان بأنهم ينحدرون من منابت مجبولة على التطاحن والتنافي تأكيداً لمركزية هذه الإثنية أو تلك، ولا يعتقد حكماء السودان أن ما جرى في المدى القريب المنظور يستجيب لحكمة التاريخ وتضاريس الجغرافيا الثقافية الموصولة بتعايش الأنساق وتكاملها، بل بالعكس، فالسودان كان وما يزال النموذج الأكثر جلاء لعبقرية الهوية القادمة من أساس التفاعل والتكامل، لا التنافي والتقاتل، ولهذا السبب تتسم العروبة التاريخية في هذا البلد الكبير بخصوصيات مداها فراغ الصحراء والسهول الممتدة، وأريجها دهشة الغابة وألوانها الملتهبة . الصحراء ليست المدى المفتوح لمتاهة الترحّل والانتقالات فحسب، بل حالة مقرونة بالنظر إلى الزمان والمكان في بعديهما الأكثر نسبية وتحرراً من قيود الارتهان للضرورة الفيزيائية، والغابة ليست حالة استحضار للخرافة، بل إنها أيضاً بانوراما للزمان والمكان الأكثر حميمية في الالتصاق بالكائنات والنواميس . السودان العربي ليس له إلا أن يكون افريقياً بهذا المعنى الذي أشرت، والسودان الإفريقي لا يمكنه الانخلاع من الهوية العربية بالمعاني الثقافية الأكثر شمولاً، فالعروبة هنا تتجاوز مرابع “ بني عبس “ إلى فضاء الصحراء والغابات المترعة بالعناصر والحيوات والآماد،. إنها عروبة تعيد تأصيل المفهوم، فيما تكشف عن خفايا السر الكبير وراء الإسلام الحنيف والهوية العربية المفارقة لمنطق العشيرة الضيق .