هي أول مرة زرت فيها السودان قبل 3 سنوات تقريباً، ورأيت فيها أرض السودان المترعة بالآماد المفتوحة ودهشة الغابات،حيث تبدو ثنائية الصحراء والغاية أصلاً أصيلاً في ثقافة السودان وأهله. أكسبت الصحراء وتنويعاتها المفتوحة من مروج وسهول ومراع بعداً غنائياً بصرياً يتسع للفراغ ويمتلئ بالقيم الفنية النابعة من أساس المدى والتأمل، وبالمقابل كانت الغابة نبعاً غزيراً لثراء الألوان ودهشة الاكتشافات والواقعية السحرية التي تتجاوز حدود الكلام. هذه الثنائية ليست سبيكة مغلقة بل إنها تتسع للتنوع، والتعدد،حيث التعايش المديد بين الاثنيات والأنساق الثقافية والتقاطعات الممزوجة بالمغالبة طوراً، وبالمحبة والتعايش دائماً. بمجرد المشاهدة الأولى للعاصمة المثلثة خرجت هذه التداعيات التي تختزل في طياتها النزعة الدهرية الأبيقورية للأفريكانية الوجودية، والمدى الصوفي لتسامح أهل السودان. تتسع الصورة المرئية أيضاً لعوالم أخرى من الحقائق القاسية.. فالحرب الأهلية استنزفت هذا البلد الكبير، وهدت كاهل الحكومات المتعاقبة، وأفرزت حالة من الجدل الموصول بالتوق والأماني الكبيرة بحثاً عن الانعتاق من ثقافة الحرب واستتباعاتها المؤلمة على الأرض. الآن يتحدث المثقف والسياسي بلغة متقاربة.. فالكل يجمع على أن الكيمياء السحرية للسودان الكبير تكمن في عروبته وأفريقيته وسودانيته وإسلامه ومسيحيته ووثنيته. لقد اتسعت المدارك لهذا التلخيص المكثف لعبرة التاريخ وحكمة الدهر، وأصبح الجميع يتداولون الموضوع السوداني ضمن هذا السياق.. غير أن الحرب الخسيسة وإفرازاتها المؤلمة خلقت ارتياباًمتبادلاً ومتواليات من التناطح العدمي والتخريجات النظرية التي تصل إلى حد التطرف ومن مختلف الأطراف.