سحابة من الغم والحزن تغيم على وجهه الشريف عليه الصلاة والسلام، وأحدهم يلقي عليه ما سمعه من بعض الأنصار: «لقي والله محمد أصحابه». نبي يأتيه وحي السماء وهو أشرف الأنبياء وسيد الرسل، المؤهل للشفاعة للخلق مؤمنهم وفاسق، الرحمة للعالمين، مسلمهم وكافرهم، المأمور بالعدل، المرسل بالمحبة والهداية، النموذج المطلق لكل جميل وكل خير، أيقال له مثل هذا؟!. يخرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى القوم من الأنصار الذين نصروه ساعة العسرة، بعد أن خذله قومه الأقربون ليقول بعبارات مختنقة الحزن ومرير الأسى: «يا معشر الأنصار.. بلغتني قالة كرهتها.. أما والله لو قلتم فصدقتم وصدقكم الناس، كنت ضعيفاً فقويناك، وخائفاً فنصرناك، وطريداً فآويناك.. أتحبون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله في رحالكم!». فسرعان ما تلقفت هذه العبارات الحزنى أفئدة الأنصار، فبين قائل ومشايع لهذا القول يحزنا دماً وأسيفاً على ما قاله أو ما هم أن يقول وبين أنصار وهبوا رسول الله حياتهم وضحوا في سبيل نصرته بالأبناء والأخوان والآباء والتليد والطريف.. بلى بلى يا رسول الله تفديك آباؤنا وأمهاتنا، وانطلقت أرواحهم تكاد تطير فرقاً من هذه العبارات النبوية التي كلها رحمة وحنان واعتراف بالجميل. واحد «مُشعّب» من أنصار رسول الله، قال كتاب السيرة النبوية إن الإيمان لم يتعمق قلبه، وأقول أنا إنها غيرة الابن المحب لأبيه والزوج التي وهبت كل.. كل.. كل حبها لزوجها الذي تمكن من الوجدان واحتل كل القلب، عندما يرى هذا الطفل الابن أباه يتجاهله في العطاء بينما يده تتفرق يميناً وشمالاً تمنح غيره مالاً ولا يلتفت إليه، وهو شعور الزوج الغيرى عندما تلمح وترى زوجها، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يتجاهلها بينما يدخر لها حباً غير محدود. لقد ذهب النبي عليه الصلاة والسلام أبعد من هذا الفهم وتجاوز بما يكون موجوداً بين أحبابه الأنصار كل حساب يقاس بالمادي التافه أو الخطير، فلا يساوي كل ما تختزنه الأرض والسماء من كنوز مقابل وجوده في المدينة بين هؤلاء الأحباب المحبين، صنع في مجتمعهم السلام بعد احتراب، والاستقرار والسكينة بعد تربص المكر والمكيدة، يصنعها يهود، وتستجيب له قبيلتان موتورتان: الأوس والخزرج، ولكنها الغيرة، غيرة المحب، الذي عصف به الحب ومن الحب ما أعمى وأصم، ودرس السيرة هذا ما نحتاج إليه اليوم حين تكون المادة كل شيء.