الكتابة في قضايا المجتمع لها نكهتها الممتعة، إلا أن الأكثر متعة ان تحظى بتفاعل المسؤولين، وأن يحاولوا الإلمام بكل تداعيات القضية المثارة.. إذ إن ذلك مؤشر وعي وثقافة وطنية تحمل روح انتمائها. أمس أثار هذا العمود اهتمام أحد الإخوة الوزراء فاستدعاني إلى مجلسه، ليفتح النقاش حول مشكلة «التقطع القبلي»، وسبل مواجهتها طبقاً لظروف البلد، وتركيبة سكانه الاجتماعية القبلية.. ويبدو أن الظاهرة باتت فعلاً مقلقة لصناع القرار، لما تترتب عنها من أضرار على صعيد السلم الاجتماعي، وعلى الصعيد التنموي، وأيضاً الاخلاقي المرتبط بسمعة اليمن وشعبها، ونظرة الخارج إليها. أعتقد أن أي جدل بهذا الشأن ينبغي ان يكون في سياق الإجابة عن السؤال : لماذا تلجأ القبيلة إلى أعمال التقطع !؟ حيث إن استشراء الظاهرة في الألفية الثالثة أمر غريب نظراً لحجم الانفتاح الذي تعيشه اليمن.. إلا أن الواقع يفرض حقائق أخرى تفسر الظاهرة.. فبرامج التنمية لم تكن متوازنة إلى حد كبير إذ إنها في الوقت الذي قلبت خرائط بعض المحافظات، وفجرت فيها نهضة مدنية ظلت محافظات أخرى تفتقر إلى البنية التحتية، وكثير من المشاريع الكفيلة بتعزيز الحياة المدنية فيها، التي من شأنها تذويب الموروث السلبي لسلوك القبيلة. الأمر الآخر وهو الأهم يكمن في ضعف البنى المؤسسية للدولة التي يمكن ان تحل بدلاً عن الأعراف القبلية التي تجري وفقها تلبية المطالب، أو حل المشاكل.. إلى جانب ضعف دور القضاء، وفساده أحياناً، والحال نفسه بالنسبة للأجهزة التنفيذية. ومن هنا كان لمماطلة القضاء في حسم القضايا دور في التشجيع على اللجوء إلى الممارسات الموروثة كأعمال التقطع أو الثأر، والتي تفهمها القبيلة على أنها وسائل مشروعة لحسم الخصومات. ولم يقتصر الأمر على الخصومات، بل ان تسويف بعض الجهات الرسمية في تلبية المطالب الشعبية يدفع أيضاً باتجاه اللجوء إلى التقطع كوسيلة ضغط على الدولة. ولعل أعظم أسباب «التقطع» سنجده في الطريقة التي تتعاطى بها الدولة مع «التقطع». فالسلطات المحلية ظلت على الدوام تركن القانون جانباً وتجلس إلى طاولة التفاوض مع الجماعة المتقطعة، وتحاورهم بمنطق القبيلة وليس الدولة.. وعادة ما يتوصل الطرفان إلى صفقة، دونما التفات الدولة للحق العام الذي يجب محاسبة المتقطعين على أساسه. وفي الحقيقة ان لجوء السلطات المحلية إلى هذا الأسلوب لم يكن سوى هروب من الحلول الجدية المستدامة للأمر موضع المشكلة، ومحاولة لمداراة القصور، والاخفاقات في عمل أجهزتها.. وهو الأمر الذي رسخ ثقافة «التقطع» كلغة للتفاهم مع السلطات، ومنطق جديد بتحقيق كل ماترجوه الجماعة المتقطعة. ومع هذا فإن القبيلة لا تمثل كياناً سلبياً إطلاقاً، فهي تمتلك من الأعراف والتقاليد الكثير الذي يخفف الأعباء عن الدولة، ويساعدها على تعزيز السلم الاجتماعي.. ولكن بعض الممارسات السلبية هي وحدها ما تؤاخذ عليه، رغم أنها غير مسؤولة عن بقاء تلك الممارسات في ثقافتها لأن الدولة هي المعنية بوضع البرامج والسياسات التي تكافح الظواهر السلبية، وتدمج مجتمع القبيلة بالمجتمع المدني.