سيرة “أوخيد” الصحراوي في رواية ابراهيم الكوني مشابهة تماماً لسيرة “الأبلق” الجمل.. كلاهما يتشاركان الحياة في الصحراء المفتوحة، ويقتنصان السكينة في لحظات الصفاء النادر، ويدفعان الثمن الباهظ للاقتران بالأنثى، ويتماوجان معاً صعوداً وهبوطاً في تصاريف الأيام ومتاعبها. المهري الصحراوي الذي يسميه الروائي ابراهيم الكوني “الأبلق” يتحول إلى معادل شامل لحيوات الصحراء ونواميس الوجود، ويتبادل مع صاحبه حديث الإشارة الأعمق من الكلام، فيقيمان معاً في زمن الاتصال غير اللفظي، وفي مختلف الظروف، فيما تتحول حياة صاحب المهري “أوخيّد” إلى حالة مركزية يتعملق فيها الأبلق حتى منتصف رواية “التبر” وحالما تصل حبيبة اوخيّد ومعذبته “ الزوجة النابعة من جمال الواحات وفتنة الصحراء” تخبو العلاقة بين اوخيّد والأبلق، فنذهب مع السارد في مسار جديد. في أعوام المجاعة ، وبعد أن يكون اوخيّد قد أصبح أباً لطفل “ثمرة العلاقة الابيقورية مع الأنثى” ولا يملك من متاع الدنيا غير دابته ، لا يجد أمامه مفراً من التخلّي عن الأبلق، راهنا إياه عند أحد تجار الصحراء، غير أن الجمل لا ينسى صاحبه، ولا يقبل بالبقاء عند الغير، وتتوالى حالات الهرب للدابة، ويستشعر الذي أخذ الجمل رهناً.. يستشعر عمق العلاقة الخاصة بين الأبلق وصاحبه، فيساومه بتطليق زوجته إذا أراد استعادة دابته، وهكذا كان. وتدور الأيام بعد أن تكون الزوجة المسكينة قد أُخذت لتزويجها من التاجر الصحراوي، ويشيع في الصحراء أن “أوخيّد” تخلّى عن زوجته مقابل حفنة من الذهب، فلا يجد المخطوف بعشقه الأزلي لأبلقه سوى طريقة وحيدة للتخلص من العار.. قتل التاجر. تالياً يُطارد أوخيّد من قبل المتلهفين للأخذ بثأر قتيلهم، والباحثين حقيقة عن وراثة الذهب، ولا يتمكنون منه، بل من الأبلق، حينها يقررون تعذيب الجمل حتى يسلم “أوخيّد” نفسه ذليلاً صاغراً، ثم يقتلونه كوسيلة وحيدة لوراثة ذهب التاجر المقتول. وخارج النسق الحكائي الذي قدمته هنا باختصار مُخل، نقرأ في الرواية كامل المنظومة السردية المركبة لإبراهيم الكوني، تلك المنظومة التي تخوض في غمار الواقعية السحرية المدهشة، وتستخدم أنساقاً بنائية مفتوحة كالصحراء.. تتمايل مع تمايلات الآكام والهضاب، وتنحدر بالقارئ إلى السهول المنبسطة، وتقوم بتشفير المعاني استئناساً بالأقوال وترسيخاً لعبرة الأيام. تلك المنظومة جعلت من سرد “الكوني” مُتميزاً، مُغايراً، ومُترعاً بالخيال حد الاحتياط. في رواية “التبر” يتوازى التبر والتراب، ذلك أن حفنة الذهب الذي قدّم لأوخيّد تمتزج بدماء التاجر المقتول، فيما يلهث اللاهثون وراء التّبر وهم لا يعرفون إلى أين سيصلون بالذهب أو يصل بهم. الرواية صرخة من أجل الحرية والانعتاق من الارتهان أياً كان نوعه وشكله، وحتى لو كان ارتهاناً لدابة مُطيعة تقبل وتنفذ، وتصبح مطية لصاحبها!، لكن الحرية وهم كبير، تماماً كالمتعة، والرضا.