لا أريد هنا أن أقلل من أهمية الظروف الدولية والمحلية في صناعة الغلاء.. ولكنني هنا لن أذهب مذهب الذين يحملون الظروف الدولية وحدها مسئولية ارتفاع الأسعار ولامذهب الذين يحملون الفساد والمعالجات الاقتصادية وحدها مسئولية ارتفاع الأسعار في بلادنا.. فأنا لست خبيراً في شئون الاقتصاد العالمي ولست أفهم كثيراً في السياسات ولا في المعالجات الاقتصادية المتبعة في بلادنا.. ولكنه قد هالني كثيراً التراشق بالألفاظ والاتهامات التي ينهال بها كل طرف من أبناء الوطن الواحد ضد الطرف الآخر، وكأن الطرفين يظنان أنهما بهذا الأسلوب في احتدام الخلافات بينهما يشاركان في إيجاد حلول ناجعة لمسألة الغلاء في بلادنا، وكأن تصفية الحسابات حول قضايا سياسية متراكمة عبر سنوات طويلة، سوف تساعد في أن تجد بلادنا طريقها للوصول إلى أفضل الحلول الاقتصادية والمعيشية.. نحن في الواقع ندلل في كثير من مواقفنا تجاه إيجاد حلول صحيحة وصادقة لمختلف القضايا أن وعينا بدورنا في معالجة الأمور مازال قاصراً أو يفتقر إلى النضج والشعور بالمسئولية.. فهناك من يظن أن إسكات الآخر أو إفحامه حتى ينخرس بحيث لايستطيع العودة للدفاع عن رأيه أو موقفه هو نجاح مابعده نجاح في أن يتبوأ هو وحده «سدة الرأي» في هذه الفترة الحرجة والخطيرة من حياة شعبنا، نحن بحاجة إلى أن نفهم الآخر ويفهمنا وإلى أن يثق بنا ونثق به وأن نقيم بيننا جسوراً من الود والتسامح، والآخر الذي أقصده هنا ليس هو الأجنبي وإنما هو القريب في اللحمة والعقيدة والمصير.. الآخر هو القريب الذي يملك الحق في أن يعبر عن رأيه في صفوف المعارضة بنفس القدر والكيفية التي يملكها الحزب الحاكم فالاختلاف في الرأي رحمة.. فلماذا نجد من يريد أن يحولها إلى نقمة والاختلاف في الرأي والمواقف، لايفسد للود قضية، فلماذا نجد بعض الذين يتعاطون الكتابة سواء في المعارضة أو من يمثلون المؤتمر كأنهم يكتبون بالسكين وليس بالقلم، كأنهم يستخدمون ماء النار وليس المداد في رص الحروف والكلمات والجمل أو العبارات، يالها من محنة حقيقية عندما يتحول أبناء الوطن الواحد إلى شظايا من الحمم في سماء الرأي والحوار. لماذا لايحاول كل منا أن يقول رأيه حسبما تمليه عليه قناعاته وثقافته وتربيته وليس حسبما تمليه عليه مصلحته الذاتية، فلعلنا نستطيع من خلال الثقة المتبادلة واحترام رأي الآخرين أن نجد قواسم مشتركة كثيرة نتفق على الأخذ بها والاستفادة منها في أطروحاتنا ونحن نواجه مشكلة الغلاء ونحاول إيجاد الحلول الناجعة لها. الملاحظ أن الكل يشكو من الغلاء وارتفاع الأسعار.. الصانع يشكو والمصنوع له يشكو.. المستهلك يشكو والبائع يشكو والمورد يشكو، سمعت وزراء يشكون ورأيت موظفين يشكون.. أغنياء يشكون وفقراء يشكون!!! كل منا يتهم جهة أنها المسئولة عن ارتفاع الأسعار، ولم أسمع شخصاً يتهم نفسه بأنه أيضاً يشارك من جانبه في هذا الارتفاع. الكل يظن أن الآخرين وحدهم المسئولون عن ارتفاع الأسعار ماعداه هو!!لم أسمع إلا من القليلين أن العادات الاستهلاكية التي نمارسها بدون روية ولاتعقل ولاتقدير لعواقب هذا النمط من الاستهلاك الذي لايمكن وصفه إلا أنه دال على عقليات أنانية متخلفة لاتشعر إلا بذاتها.. هناك من الناس من لايستطيع أن يمضغ اللحوم إلا إذا كانت لحوم عجول «بازية» أو «ماشية بازية» من أي نوع الأمر الذي يؤدي إلى كارثة اقتصادية محققة على مستوى الحاضر والمستقبل ولن أدخل في تفاصيل ذلك.. هذا التبذير والتبديد في استهلاك الغذاء ليُرمى ماتبقى منه في صناديق القمامة صار مألوفاً ومعتاداً في بيوت الأغنياء ومتوسطي الحال، أو حتى الفقراء هناك شبه جنون استهلاك وإقبال لامثيل له في شراء منتجات مستوردة من شرق آسيا لايرجى منها أي نفع مثل اللعب العادية واللعب الالكترونية والملابس الرخيصة والمعلبات والمقرطسات وأنواع أدوات الزينة و«السماسم» والعقود المزيفة وأنواع الحلي المطلية بأنواع الألوان اللامعة والزائفة هل نحن حقيقة نحتاج إلى شراء كل ماهو معروض في أسواقنا من سلع مهربة أو غير مهربة، ألا يوجد من يعتقد أن هذا النمط من الاستهلاك يدمر اقتصادنا وينهك عملتنا ويصرفنا عن توظيف مابأيدينا من نقد وسيولة إلى إقامة مشاريع صغيرة؟! ألا يوجد من يظن مجرد ظن أن الجوال كارثة محققة حلت ببلادنا وأن الذين يتاجرون بهذا الوباء الوافد، إنما يمتصون مابقي من دماء شحيحة في عروق المواطنين، وإلا بالله عليكم أخبروني ماهي فائدة الهاتف المحمول أو الجوال بالنسبة لأمة فقيرة، لاتصنع ولاتنتج ، بل تستورد كل شيء من القرطاس حتى الجوال؟! مافائدة هذا الجوال الدوار الطنان مقارنة بماله من مساوئ وعيوب اقتصادية وسلوكية وأخلاقية؟! التاجر الذي لايقنع بالربح المعقول.. ألا يظن نفسه مسئولاً عن ارتفاع الأسعار؟ وصاحب الجمارك الذي يضيف إلى أعباء التاجر مبالغ أخرى لحسابه الخاص، ألا يشارك في الغلاء؟!.. ألا يظن العاملون في الجمارك والضرائب وكل مرفق من المرافق الإيرادية أنهم يشاركون في محنة البلاد وارتفاع الأسعار وهم يحومون حول كل تاجر وكل حاوية أو قاطرة أو ماشئت من هذه الوسائل؟! لايبرحون مكانهم حتى ينال كل منهم مايظن أنه حق من حقوقه المشروعة طبعاً.. لا أشك مطلقاً في أن هناك كوادر نظيفة في هذه المواقع تحرم على نفسها «أكل الحرام» قبل أن يحرم ذلك عليها القانون أو الشرع فهناك إذاً في هذه المواقع من يستحق اللوم والتقريع والمحاسبة، بل والإزاحة عن مواقعهم تلك، لأنهم يصنعون الغلاء جنباً إلى جنب مع بقية العوامل الأخرى التي ذكرناها وغيرها كثير.