الثقافة الإنسانية حصيلة تجارب وخبرات، وتراكم معرفة، فعندما نتجاهل تلك البديهية ونسلّم أمرنا إلى خطاب عابر، وهواجس، وثرثرة هنا أو هناك، فإننا حينئذ لا نلغي ثقافتنا وحسب، بل وحتى منطق عقولنا وإنسانيتنا! ما نعيشه اليوم من انفعالات، وتوتر، ومماحكات، ودعوات غريبة للانتقال لواقع جديد لا يمت إلى ثقافتنا، وتراثنا الحضاري لا يمكن أن يكون سوى تمرد على الذات، وتغليب للعاطفة على العقل، وفي أحيان كثيرة هو ليس إلاّ جنون العصر! فالديمقراطية التي اختارتها اليمن ذات يوم للانعتاق من الصراعات الدامية، والفتن، وأزمات السياسة لا يمكن أن تتحول بعد سبعة عشر عاماً إلى أداة صنع كل تلك الظروف إلاّ إذا انقلب المجتمع على قيمه، وثقافته، ومبادئه الإنسانية التي كانت من قبل هي مسوغ الانتقال للديمقراطية.. وهو الأمر الذي يضعنا أمام تساؤل مهم: يا ترى هل اختلت غايات الديمقراطية أم إن الخلل في الأدوات البشرية التي تتعاطى مع الديمقراطية!؟ لاشك إن الديمقراطية فلسفة مجربة، وسبق أن أثبتت نفسها كخيار سلمي وتقدمي لدى الكثير من بلدان العالم، لذلك ما علينا إلاّ أن نتفحص الأدوات البشرية.. وبتقديري إن فقدان الديمقراطية لتوازناتها ماهو إلاّ حصيلة انتقالها من أيدي عقول ناضجة، وقوى وطنية تحترف العمل السياسي بوعي إلى أيدٍ عابثة لا تقدر قيمة الخيارات التي تؤمّنها الديمقراطية للشعوب. فبعض القوى السياسية باتت تنظر للديمقراطية على أنها فرصة لصناعة الأزمات، وتبديد الوفاق الاجتماعي الوطني على أمل أن تجد في هذا الشتات أسباب البقاء، لإدراكها أن وحدة المجتمع تزيد من قوته، بما يعني أنه يزيد أيضاً من عزلتها وضعفها لكونها قوى خارجة عن الإرادة العامة للمجتمع، وشاذة عن رغبات وطموحات الآخرين .. ومن هنا فإن هذه القوى السياسية، وفي ظل عجزها عن تجاوز حالة الضعف والالتحاق بركب الآخرين، ترى أن لا سبيل لها لحماية وجودها غير جرّ الآخرين إلى ضعفها، وليس الارتقاء إلى قوتهم.. وهذا ما يحدث بالضبط في اليمن.. إننا عندما نراجع صفحات تاريخ كل من أولئك المتسببين بأزمات اليمن، والمروجين للقلق في كل مكان حتى في فصول الدراسة الابتدائية نجدهم إما مجموعة شبان صغار لم تنبت شواربهم بعد، أو أناساً لم يكتب التاريخ في صفحاتهم أي عمل، أو تميز يؤهلهم لوضع أنفسهم بمواضع القادة والزعماء للمجتمع .. ومهما اجتهدنا في البحث لن نجد بينهم علماء، أو رجال دين معروفين بفضائلهم، أو مناضلين لهم مآثر وبطولات.. بل على العكس في الغالب نجدهم إما كانوا دعاة فتن، أو صناع أحداث دامية، أو أمنيين مسئولين عن الكثير من فتن وأحداث ما قبل الوحدة.. ومن هنا فإن اختلال مخرجات الديمقراطية ليس إلاّ ترجمة لنتائج بديهية لأي عبث سياسي وأخلاقي في ممارستها.. وما على المجتمع سوى البحث عن القدوة التي يلتف حولها والتي تفرق بين أداة مخصصة لصناعة السلم وأخرى لصناعة الفتن.